الأخت مارانا سعد قمرُ “مهرجانات بيبلوس” وكارلا رميا نجمتُها
النشرة الدولية – هالة نهرا –
لم تكن الأخت الفاضلة والفنّانة اللبنانية المبدعة مارانا سعد، الجمعة، على خشبة “مهرجانات بيبلوس الدولية”، نجمةً فحسب في سماء الأنغام والمقامات والمحطّات الغنائية وصوابية الرؤية الموسيقية الأصيلة التي تصون الهويّة اللبنانية والعربية في مهبّ التغريب من جهةٍ، والموجة التجارية الاستهلاكية من جهةٍ أخرى… بل كانت الأخت مارانا أيضاً قمر جبيل الذي انعكسَ ضياؤهُ الفضيّ على البحر، والميناءِ، والقلعةِ، ووجوهِ الحاضرين الذين جمعتْهم بسطوةِ محبّتها الجارفة من مناطق لبنان في أمسيةٍ من العمر. يليقُ بيد الأخت مارانا القبض على عصا قيادة الكورس والأوركسترا فالعصا شغفُها الفنّي الجليّ، ودقّتها، وتنظيمها الحكيم، وضبْطها لكلّ عنصرٍ متناغمٍ في الفريق الواسع، وإحكامها، وإتقانها، وتمرُّسها.
رغم الأحداث الأمنية السيئة والأليمة المؤسفة في لبنان منذ أيام، أثبت اللبنانيون في جبيل انتصار حبّ وإرادة الحياة في نفوسهم، وشفَّ حضورهم عن انفتاحهم ورقيٍّ بهيٍّ بيِّن في بلد التناقضات والمفارقات العجيبة، وتليقُ بمهرجانات بيبلوس التحيّة على الجهد والعزم والإصرار على الاستمرار والتحدّي الرفيع، والمناخ الحضاريّ الذي يُظهر وجه لبنان الثقافي والفنّي الحقيقي.
كانت لافتة وآسرة في الحفلة الأجواء الفيروزية والرحبانية والمواءمة الذكية بين التراث والحداثة والتقليد والتجديد، إضافةً إلى محطّاتٍ غنائية مميّزة للمؤلّف الموسيقي والفنان مرسيل خليفة (“وقِلْتْ بكتبلَك” التي يعرفها الجمهور بصوت الفنانة أميمة الخليل، و”في البال أغنيةٌ” وهي عن فلسطين)، والمرور بعذوبةِ كلٍّ من “موسيقار الأجيال” محمد عبد الوهاب، والشحرورة صباح، وفريد الأطرش، وسواهم، واستحضار طيف الدراويش الصوفيين وظلّ الكنيسة وأذان المسلمين في إطار لوحةٍ فنيةٍ جديدة متجانسة جامعة ومعبّرة… وقد برزتْ أغنية “بصباح الألف التالت” من كلمات الكبير منصور الرحباني بدلالاتها الإنسانية العظيمة الكبرى: “لا للفقر، لا للقهر، لا للعنصرية”.
تجلّتْ “جوقة فيلوكاليّا” و”فرقة عشتار”، فيما برعتْ الفنانة والمطربة النجمة كارلا رميا بصوتها المطواع الدافئ المتميّز في اللون البلدي الفولكلوريّ حيث تمظهرت عُرَب صوتها وزخارفه الطبيعية وقدراته وقماشتها الصوتية البرّاقة، من دون الوقوع في فخّ الاستعراض ومع المحافظة على التَّحنان الخلّاب في حنجرتها. كارلا رميا صوتٌ متمكّنٌ رقراقٌ واثقٌ ومقنع، يغنّي بإطراب في سياقٍ مشرقيٍّ عربيٍّ نهضوي يجذب الذوّاقة، كما أنها تُزاوجُ تلقائياً بين النبض المعاصر في الأداء وروح الأصالة.
حفلة الأخت مارانا سعد و”جوقة فيلوكاليّا” و”فرقة عشتار” وكارلا رميا، شكّلتْ بقعةَ ضوءٍ جماليّ وصعودٍ دالٍّ ودلاليٍّ على الصُّعُد الفنية والثقافية والحضارية في زمنِ الانحطاط والانهيار السياسي والاقتصادي والقِيَمي الخطير. إنّه وجه لبنان الحقيقي الخالد الذي يقاوم بنُبلٍ متجذّرٍ حضارياً جرح وعفن راهِن لبنان، وقد تسبّبت بهما المنظومة المافياوية الفاسدة ونظامنا الطائفي المتخلّف المهترئ؛ فشتان بين الثرى والثريّا، وبين النور والظلمات.