الكتّاب الجدد؛ مشهد بوليوودي
النشرة الدولية – مصطفى أمين –
كانت نيتي الأصيلة عند العودة إلى المشهد الثقافي والأدبي والفكري بعد اعتزال سنة كاملة، هي تثبيت مفهوم شيوعية ومشاعية المعرفة بدلاً من نخبويتها الليبرالية أو اليسارية التقليدية المتزمتة، ويبدو أنّني قد نجحت، فبالرجوع إلى تعليقات القرّاء على موادي في جريدة “العربي الجديد؛ بريطانيا – لندن” على الخاص مثل “السهل الممتنع” “اللغة سلسة وسريعة” “الفكرة واضحة وممنهجة” “عميق في معناه بسيط في أسلوبه “وغيرها..
في الحقيقة كنت أدرس المشهد الثقافي فترة اعتزالي مقدماً موقف المعتزلة بالنظر إلى المعارف.. حيث إنّ المشهدية اليوم عمادها الاستيلاب الفكري والثقافي، بمعنى أدقّ يطلّ علينا كتّاب وشعراء يستخدمون الأسلوب السوريالي الهوامي الوهامي في موادهم ولكن بصورة مشوّهة للمفهوم الذي جاء به المصطلح، وبصورة تقريبية؛ السوريالية سروال يتّسع لإثنين من المعاني أو أكثر، ولكنّه بالطبع ليس ما يستخدم اليوم في جعله سروالاً ممزقاً فارغاً تضيع منه المعاني، إذ إنّه يستعمل اليوم للموضة الثقافية ذات “المود” سيء الطابع أو “الفانتزي” الثقافي و”البابازيات” الثقافية، من الضروري لأيّ كاتب أن يكتب للناس، للمجتمع، للحياة، وليس لنفسه بهيئة أنانية يدلّ على فجاجة وإلحاح وجوده وسط المشهد الثقافي بشكل يائس ومريب، فحين يكتب الكاتب بلغة هوامية (سحرية) وهامية (خادعة | غير أخلاقية لغوياً) لا هدف ولا مغزى منها سوى تعقيد اللغة وسيمائياتها ودالها ومدلولها، ليجعل من نفسه كاتب صعب الفهم “النخبة” أو “حداثي” فالمشكلة في الكاتب نفسه وليس في القارئ أيّ قارئ الذي يحاول أن يقرأ ليفهم ويستفيد ويُفيد ولا سبيل لهذا كلّه!
إنّ الطريق إلى الكتابة هو وسيلة الكاتب إلى القارئ، وليست غاية سوريالية هوامية وهامية. ولا يحقّ لأيّ كاتب وهمي كهذا أن يدين القارئ بعدم الفهم، بل هو نفسه متّهم بخرق الأخلاقيات والمقاصد اللغوية، والعبث بها، وتحويرها عن قصديتها الأصيلة. إنّ اللغة وبحكم تخصصّي اللغوي – الألسني وُضعت للإفهام وأيّ خرق يتعدّى على غاية الإفهام – إن كان اتجاه لغوي معاصر أو أفراداً – صارت اللغة كرموز الحيوانات بين بعضها البعض فليعيش في الغابة إن يستطيع! فكاتب كهذا ليس هو من اللغة في شيء، ولا هو ابن الكلمة، بل لقيط الفهم غير الدقيق للعوامل الحداثية وسياقاتها.
وعلى النقيض من ذلك يطلّ علينا ممن لديهم هواية الاطلاع على الثقافة، فيكتبون شيئاً يصحّ لأن يكون مقطوعة من مذكراتهم اليومية، أو الافصاح الشخصي المدوّن، أو تعليقات وخواطر سريعة، ليمسو أدباء وشعراء وتقام لهم المناسبات والألقاب.. أو ممن هم هواة للأدب والشعر، ولا دخل لهم بتخصّصه أو على دراية بنيته العميقة، فنراهم يسيطرون رأسمالياً على مراكز الثقافة بدواعي المثل “دعه يعمل دعه يمرّ”، ولكنّه مرّ على المتخصّص فيكيف يمرّ! أيضاً هناك نغمة مزعجة لكتّاب اليوم فبعضهم من يستخدم الشكلانية العربية أو الروسية في النص أو القصيدة بحيث يكثّف الكاتب في نغمته الصور البيانية والمحسنات اللفظية؛ من استعارات، وكنايات، وتشابيه، وتورية، وجناس، وسجع، ما يجعل النص لوحة تشكيلية جمالية فارغة المعنى، مع إطار مذهّب ولكن دون مغزى له. فيفقد النص بنيويته كوحدة بناء متماسكة مع الأطر الأخرى.
بإيجاز الكتابة ليست رصيف “الكسليك” وليست هي أيضاً “شارع الحمرا” بل هي العاصمتين “بيروت” وطرابلس”، وليست هي رحلة إلى “باريس” بل هي مُوَاطَنة صالحة قبل كل شيء.
أضيف أيضاً أنّ هنالك موضة معرفية عند الكتّاب تعرف بعدم الاتساق في الأنساق؛ حيث تأتي موادهم متناقضة مع جوهرهم الروحي والسلوكي.. إنّما سمي الشاعر شاعراً؛ لشعوره بنبض الآخر وجمالياته، وكذلك الأديب؛ إذ إنّه يتأدّب في أسلوبه بحضرة المجلس. وكذلك الفيلسوف؛ فهو يحبّ الحكمة في محبة الآخر، فلا يجعله يعاني.. وكذلك المحامي غايته الحرص على عدالته مع الآخر بكل حميّة وشهامة دونما تلاعب أو تشويه للحقائق. وكذلك المسرحيّ فإنّه يسرح في ملكوت الإنسان. وكلّ معنى من هذه المعاني إذا فُقد، فَقد قيمته المضافة، وأصبح شعبوي الوجود وإن بدى عكس ذلك، وصار إلى ألقاب وحشية منزوعة النفعيّة والغائية بدلاً من الماهية التي وُضع لأجلها وتأصّل.
وفي حواراتي الصحفية والشخصية لشعراء وكتّاب وروائيين؛ أجد أنّ حواراتي النقدية ذات المنهج التحليلي “الفرويدي” أو “اليونغي” في النقد الأدبي لم تعجب البعض، إذ إنّني أكشف عرى المستور منهم بشكل شخصي وخاص، ونصل لنتيجة مشتركة، أيّ بيني وبين الذي أحاوره، أنّه قد كتب ما لا يعتقد وما لا يؤمن وما لا يفعل، ويشعر بعيد النتيجة تلك بإحباط وتفاهة شديدة ليس لأنّ نقدي صلب، بل لأنّه أدرك حجم الجدار الإسمنتي الفاصل بين ذاته الأصيلة وتلك المصطنعة، والأخطر أنّ الذاوتين تعاني من ازدواجية اجتماعية، كما تعاني من اضطراب الهوية التفارقي على صعيد ذهاني معرفي وثقافي، إذ إنّ منظومة التقاليد والأعراف والقيود لاتزال تحكم هؤلاء الكتّاب، ظاهرةً حجم الهوة بين النظرية والتطبيق، بالإضافة لنظريات وتطبيقات غير منسجمة مع الحقل ذاته، مشيراً إلى فوضى داخلية عارمة، وتفكك أواصر الارتباطات المعرفية النسقية لموضوع واتجاه واحد، ما يقودنا إلى تفكك أبستمولوجي (معرفي) عند الكتّاب العرب تحديداً، بالإضافة إلى ذلك قيامهم بغير قصد منهم بنفاق اجتماعي مضاد للنفاق ذاك، وتحديداً ميكانيزمات الإنكار، واللوم، والإسقاط.. ولست معتذراً إذا كنت قد أقمت حوارات صحفية ولم أنشرها أو شخصية ولم أستطيع إكمالها بسبب انتهاء صلاحية المواد التي أدرسها بفعل أصحابها، فأنا كناقد أو كفرد يحبّ النقد بشكل أدق؛ أرى المادة دراسة حالة نفسية في المقام الأول، وأدرسها كظاهرة نفسية معينة تحتاج الوقوف عندها لتشخيصها وتحليلها معرفياً، ولا يهمني شخصك بقدر ما يهمني عملياتك الدفاعية في الحوار، ومصداقيتك مع الذات، وجرأتك على كشفها، وفضح المستور، وتجاوز الحدّ المرسوم من أي جهة كانت معتقداً وقولاً وفعلاً وعلى رأي واحد.. فالحرية حرّة بطبيعتها، ولا تقبل أيّ قيود من داخلها أو من خارجها وخاصة عند دراسة عمل أدبيّ أو فنيّ معين وتأثير تداعياته الشخصية على المرسل والمرسَل إليه، والحرية التي تقبل قيداً ما، ليست حرية إنّما هي مفهوم وتعبير غير دقيق يلزم تصويبه بمفهوم وتعبير آخر. ولا يعني أنّني ككاتب أو كشاعر كما يقال، فوق النقد، بل قد ينجح الناقد في نقده أكثر مما يقدّم من مواده، للعديد من الاعتبارات.