لا أحد يتكلم مع أحد في لبنان ولا بوادر لتسوية سياسية

الطبقة الحاكمة تريد مساعدة المجتمعين الدولي والعربي لكنها لا ترغب في التماهي مع أجواء الاتفاقيات والتهدئة

النشرة الدولية –

اندبندنت عربية –

يغيب المسؤولون اللبنانيون تماماً عما يجري في الإقليم، وكأنهم يعيشون على سطح كوكب آخر، وربما يفعلون ذلك عمداً أو هرباً من مواجهات الأزمات، أو التأجيل بانتظار ما قد يحمله المستقبل. والمستهجن أن الطبقة الحاكمة تريد مساعدة المجتمع الدولي والعربي، لكنها لا تريد التماهي مع أجواء الاتفاقيات والتهدئة، أو تتصرف وكأن الموضوع لا يعنيها.

سوسن مهنا

في السابق عول كثر على الاتفاق الذي جرى بين السعودية وإيران في 10 مارس (آذار) الماضي، والذي تضمن بنداً نص على “تأكيد الدولتين احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”. ومع هذا أصر معظم الفرقاء السياسيين على تفسير الاتفاق وفقاً لتحليلات أثبت لاحقاً عدم دقتها، إن كان بالنسبة إلى ملف انتخاب رئيس للجمهورية، أو بالنسبة إلى الوضع الاقتصادي المتهالك.

لاحقاً وقبل أن يجف حبر إعلان القمة العربية في جدة مايو (أيار) الماضي، والذي نص في الفقرة السادسة منه على “وقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية والرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة”، جاء الرد مباشرة عبر مناورة ميليشيات “حزب الله” العسكرية، والتي اعتبرها كثر رسالة منه للقول إنه لا علاقة له بمسار التهدئة والتوافقات في المنطقة، وبخاصة بعد الحديث عن الغاية من سلاحه، وبعد التفاهمات ومحاولات تهدئة الصراعات التي تجري في الإقليم، في حين اعتبرت صحيفة “عكاظ” السعودية أن “حزب الله خطف الدولة”، حينها.

مناورة “حزب الله” العسكرية لم تكن الرسالة الأخيرة، إذ جاء انقلاب الشاحنة المحملة بأطنان من الأسلحة والأعتدة الحربية في بلدة الكحالة المأهولة بالسكان، والواقعة على الطريق الدولية والتي تربط العاصمة السورية دمشق بنظيرتها اللبنانية بيروت، في التاسع من أغسطس (آب) الجاري، ليؤكد المؤكد أن البلد يقبع على فوهة بركان.

هذا سياسياً، أما على المقلب الاقتصادي فلا يتردد أكثر من مسؤول من فريق “الممانعة” في وصف ما يجري في البلد، على أنه لا يعدو كونه ضغوطاً دولية أو مؤامرات خارجية، لانتزاع “تخاذل وضعف” أو “سحق المقاومة وإخضاع لبنان”، بينما تصف المعارضة أن ذلك هدفه الضغط في مقابل التنازل بملفي النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين، عندما يحين وقت “التسوية الإقليمية”.

وبين هذا وذاك، يصر الجميع تقريباً على أنهم ضد التدخلات الخارجية، بل أكثر من ذلك يتهم فريق من المسؤولين بعض الدول العربية بعرقلة انتخاب رئيس للجمهورية، ومن ثم يكررون أنهم بانتظار ما ستحمله زيارة المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان، ونتائج لقاء الخماسية الدولية والعربية، أي فرنسا والسعودية وقطر ومصر والولايات المتحدة.

الخروج من عنق الزجاجة

في ظل استعصاء قاتل، ومراوحة المكان، يبدو واضحاً غياب أي مبادرة لبنانية جامعة تنتج حلاً أو تتحدث عن ركائز لاتفاق لبناني- لبناني، علماً أن صندوق النقد الدولي كان وضع شروطاً في مقابل إنقاذ البلد من الانهيار، منها أن تتمكن سلطاته من تطوير نموذج حكم جديد أقل فساداً وأكثر شفافية من النظام القائم منذ سنوات ما بعد الحرب الأهلية (1975 – 1990)، و”الجدية في النهج الذي تتبعه الحكومة”، وفقاً لما صرحت به المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، منذ فبراير (شباط) 2020، إلا أن المسؤولين اللبنانيين فعلوا كل شيء إلا البدء في تنفيذ شروط صندوق النقد، أو العمل بشكل يوحي بالجدية في التعاطي مع المؤسسات الأممية.

واستمر المسؤولون اللبنانيون أيضاً في المناورات والدوران في فلك “المساعدات الدولية والعربية”، علها تعقد مؤتمرات دعماً للبنان على غرار “باريس 1” و”باريس 2″، بشكل أصبح مدعاة “للخجل” وفق ما كتبه بعض رواد التواصل الاجتماعي، على أثر تصريحات لوزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام، التي كادت تؤدي إلى أزمة دبلوماسية بين الكويت ولبنان.

حينها قال سلام إن صندوق التنمية الكويتية يمكن أن يتخذ قراراً بـ”شخطة قلم” لإعادة بناء صوامع القمح التي دمرت أثناء انفجار مرفأ بيروت، مما أثار غضباً عارماً في الكويت ولبنان على حد سواء، ووصل ببعض المراقبين للقول لماذا يصرون على وضع لبنان واللبنانيين في خانة “التسول” و”الشحاذة”، علماً أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي كان نقل في فبراير (شباط) الماضي عن تفاصيل لقائه مع ولي العهد السعودي ما مفاده أنه يفهم من خطاب الأمير محمد بن سلمان “أنه مستعد لمساعدة المحتاجين والمستشفيات والمجتمعات الاجتماعية في لبنان من خلال الصندوق السعودي – الفرنسي. أما الدولة اللبنانية، فطالما أن (حزب الله) يقدم مساعدات عسكرية لمن يعارض السعودية في اليمن، فلن تكون هناك مساعدة”.

وحول هذا الشأن قال مصدر سياسي لبناني في حديث لـ”اندبندنت عربية”، إن الدول العربية قد تكون انكفأت عن مساعدة البلد، لأن المساعدات تذهب إلى جيوب أمراء الحرب وإلى طبقة سياسية نشأت بعد فترة 2005، فلبنان أصبح يشكل “وجع رأس” للدول العربية، وفق تعبير المصدر.

الحاضنة العربية

في الوقت نفسه يرى مدير “مركز الاستشراف الإقليمي للمعلومات” عباس ضاهر، أن الدول العربية تشكل السند الحقيقي للبنان بكل المراحل، ولا يمكن لهذا البلد أن يكون من دون حاضنته العربية التي ينتمي إليها بكل المقاييس، لافتاً إلى أن كل الانتقادات التي تطاول العواصم العربية لا تعبر عن المزاج الشعبي اللبناني، لأن الانتماء للإقليم متجذر في نفوسهم بكل طوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم.

واعتبر ضاهر أن الشعب اللبناني لن يكون يوماً ضد أشقائه العرب، خصوصاً دول الخليج العربي التي وقفت إلى جانبه في كل المحن، ويمكن استحضار تجربة دولة الكويت التي يعود لها الفضل الأساسي في مساعدة لبنان ونهضته وخروجه من أزماته، مضيفاً أن تعبير وزير الاقتصاد اللبناني لا يعبر عن موقف بيروت الرسمي والشعبي إزاء الدولة الخليجية، التعبير كان خطأ تراجع عنه.

وتابع “كما أن الكويتيين لا يقفون عند تصريح الوزير سلام، باعتبار أن ما يجمعهم بلبنان أكبر من تصريح “وزير وأخطاء مشابهة”، موضحاً أن قيامة لبنان الاقتصادية كما قيامة سوريا من أزمتها لن تكون من دون الدول العربية التي تؤمن وحدها مؤازرة الأشقاء وتترجم مصالحهم في كل المراحل”.

لا مبادرات جدية

في ظل تنصل الطبقة السياسية من تحمل مسؤولياتها تجاه البلد، والمحاولات العبثية لتمييع الأزمة من خلال مناكفات، وإشاعة أجواء أن الحلول تأتي عبر الحوارات التي تجري بين بعض الفرقاء “حزب الله” والتيار الوطني الحر، مثالاً، لا يبدو أن هناك أسساً لمبادرات جدية مطروحة للخروج من “الجهنم اللبناني”، في حين يبدو أن المؤسسات الرسمية بدأت تدق ناقوس الخطر، معلنة عن مرحلة التوقف عن العمل، ولعل في إقفال “تلفزيون لبنان” نموذجاً.

هنا قال المتخصص في الشأن السياسي اللبناني أيمن جزيني إن ما يحدث حالياً ليس جديداً على الساحة اللبنانية، فتاريخياً ارتبطت الجماعات السياسية براع إقليمي معين، وانتخاب رئيس للجمهورية لم يكن يوماً لبنانياً صافياً بل بفضل تسويات دولية وعربية، مضيفاً “اليوم تفاقمت الأزمة بوجود (حزب الله) وارتباطه الوثيق والعميق بإيران ومشروعها الإقليمي، والذي أنشأ حقل خلافات كبيراً مع الدول العربية والغربية”.

وسادت أجواء وتحليلات في الصحافة اللبنانية تتحدث عن تعثر للاتفاق السعودي – الإيراني، مع ربطها بعدم الاتفاق على اسم رئيس للجمهورية أو انتخابه، وهو ما علق جزيني عليه بقوله “إنها أوهام لبنانية”، موضحاً أن الاتفاق بين الدولتين أوسع بكثير من الملف اللبناني، كما أن هذا الملف قد يكون في آخر سلم الأولويات.

أضاف “يوم كان لبنان يملك بطاقة تعريف لم يكن ذا شأن، أما اليوم فما دور هذا البلد؟ هو البلد الوحيد على حوض المتوسط الذي لا يملك مرفأ ليصدر أو يستورد، فقد دوره بالترانزيت، ومعظم مستشفياته أفرغ من الطاقة العاملة المهمة والأساسية بعد سفر عدد كبير من الأطباء والممرضين بسبب الأزمة الاقتصادية، إضافة إلى تدن في مستوى الجامعات والتعليم، وتدن في مستوى الكفاءات التي كان يصدرها إلى الخارج، إذ فقد لبنان دوره كبلد خدماتي مع الوقت”.

وأشار إلى أنه ونتيجة لتصارع أهله وارتباطاتهم الخارجية فإنه كما يقدم خدمات في أوقات السلم يقدم خدمات في أوقات الحرب، بسبب طبيعته وموقعه الذين يفرضون عليه ذلك.

لا بوادر للحوار

لكن هل هناك أفق للحل؟ يجيب أيمن جزيني بأنه “للأسف لا بوادر عن تسوية دولية حالياً، إذ لا ظروف داخلية أو إقليمية أو دولية تسمح بذلك، والدليل على ذلك ما قاله المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان والذي رحل (طاولة العمل) إلى سبتمبر (أيلول) المقبل، حتى بات كل الشعب اللبناني ينتظر هذا الشهر، ويبقى السؤال: ما الذي سيختلف أو يتغير حينها في ظل مراوحة وجمود سياسي؟!”.

واختتم حديثه “لا أحد يتكلم مع أحد، فأين هي بوادر الحوار وكيف سيتم انتخاب رئيس؟ في حين أن مؤسسات الدولة إما مقفلة أو مضربة عن العمل، وهذا يهدد القطاع العام بشلل شبه تام، إذ لا إمكانية لتعيين موظف صغير، أو إجراء امتحانات دخول لأي وظيفة في الدولة”.

زر الذهاب إلى الأعلى