الليبرالية السلفية المتطرفة!
بقلم: مالك العثامنة

النشرة الدولية –

هناك حرب قِيَّم في العالَم، ولعلها حرب على «القيم» التي عرفتها البشرية طوال تاريخها، حرب تهدف إلى الانفلات من القيم الأخلاقية والاجتماعية، وهي تزداد شراسة، ويلمسها بوضوح مَن يعيشون في دول غربية، وقد لمستُها بنفسي خلال السنوات الماضية كوني أعيش في بلجيكا.

ما يحدث اليوم، وبتسارع ملحوظ، وتمكن تسميته «الصوابية السياسية» (political correctness)، صار بحد ذاته أيديولوجيا متشددة تماهت مع بعض السلفيات الدينية المتطرفة لتصبح مخالَفتُها «كفراً»، وصار انتقاد تماديها في التسلط ليس مجرد رأي آخر بل موقفاً معادياً يستحق العقاب. وهي تؤمن أن كل ما حدث قبلها جاهلية متخلفة ومعتمة، ومن لا يتفق معها متخلف رجعي، ذكوري وعنصري.. وهذه كلها أدوات التكفير الليبرالي المشابهة لأدوات التكفير السلفي المعروفة!

لقد استطاعت «الصوابية السياسية» أن تكون حصان طروادة الأضخم في التاريخ البشري، باقتحام هذا الحصان الخشبي لكل تفاصيل حياتنا كبشر عبر منهجية تحاول ضبط كل مناحي حياتنا وأفكارنا على سوية واحدة من التفكير والذوق، حتى أنها صارت اليوم تمارس عمليةَ «اجتثاث» كل ما يمكن اجتثاثه من أدبيات الماضي في المجتمعات البشرية.

مثلا وليس حصراً، كان فيلم (Shawshank Redemption) من أهم الأفلام السينمائية التي أجمع عليها النقاد والجمهور، لكن حسب أئمة الفقه السلفي الليبرالي المستجد فإن الفيلم ينتمي لعصور الجاهلية لأنه لا يحوي أي دور أساسي لأي امرأة فيه، إذ تجري كل أحداثُه في سجن للرجال!

تلك الصوابية التي بدأت بحقوق أقليات محقة في مطالبها أول الأمر، ثم تطرفت في خلق حقوق متوهمة وصلت إلى حد فرض «حرية» تتعلق بالنوع، صارت تبحث عن شرعيتها القانونية بقوة القانون لتفرض نفسَها على المجتمعات.

لستُ أقف ضد التعددية والتنوع الإنساني، وأحترم خيارات كل شخص في حياته الشخصية، ولا أدعو إلى إقصاء أي إنسان لأنه مختلف، وأتوقع المعاملةَ بالمثل من أي إنسان على نفس المعيار.. لكن ما أريد قوله هو أن القصة ليست إلا مغالاة في الدفاع حد إقصاء المختلف أياً كان. وتذكَّر أن هذا الآخر دوماً هو أنت في عيون الآخرين. ويعني ذلك ضمن ما يعنيه أنني أبحث عن التعددية في الجوهر، لا فرض اللون الواحد وتنميط أفكاري ضمن منظومة تحاول القضاء على ذائقتي الفنية وتوجهاتي الفكرية التي تؤمن بالإنسان، والإنسان هنا لا يمكن أن يكون حالة تكرار بقدر ما هو حالة تعدد وتنوع ليس فيها أي نوع من الإقصاء.

إننا فعلياً أمام «مكارثية» الطرف الآخر الذي اضطهدته المكارثية «الأصولية» المتطرفة ذات يوم، لتتحول الضحية إلى جلاد.. مكارثيةٌ تجاوزت حقوقَ الفرد وكرامتَه إلى التعدي على حق الآخرين في الاختلاف، وهذا لا يختلف كثيراً عن نمطية تفكير «القاعدة» و«داعش»، ولا غيرهما من هيئات عصور الظلام التي كانت تدين مَن يخالفها وتحكم عليه بالحرق حياً!

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا

 

زر الذهاب إلى الأعلى