واشنطن وطهران ورسائل “الصفقة الصغرى”
بقلم: د. سالم الكتبي

النشرة الدولية –

لم نتشكك لحظة في أن هناك قنوات إتصال مفتوحة بين الولايات المتحدة وإيران رغم كل النفي الرسمي، لاسيما من الجانب الأمريكي، وذلك لأسباب واعتبارات عدة أبرزها أن المخفي في علاقات الجانبين أكثر من المعلن بمراحل، وأن هذه طبيعة العلاقات بينهما عدا فترات قلائل طغت فيها القطيعة والتوتر الحقيقي على الأجواء، ومن ذلك فترة حكم الرئيس السابق دونالد ترامب وتحديداً منذ قرار إنسحابه من الإتفاق النووي في عام 2018.

الإتفاق الذي تم الإعلان عنه مؤخراً لتبادل السجناء بين طهران وواشنطن، في إطار تفاهم شمل نحو خمسة من الرعايا الأمريكيين مقابل نفس العدد أو أكبر من الإيرانيين السجناء في الولايات المتحدة بالإضافة إلى رفع التجميد عن نحو 6 مليارات دولار من الأموال الإيرانية المجمدة في كوريا الجنوبية، وإيداعها في حساب مصرفي في قطر ليكون متاحا لإيران استخدامها، هذا الإتفاق الذي استغرق إتمامه أكثر من عامين يشير إلى أمور عدة، أولها أن البراجماتية والنفعية السياسية تحكم سلوك وسياسات الطرفين، وأن العداء المعلن بينهما لا يحول دون الحوار والتوصل إلى تفاهمات واتفاقات، وثانيها أن قواعد اللعبة قد تغيرت كثيراً وأن المفاوض الإيراني بات أكثر قدرة على إنتزاع تنازلات/ مكاسب تفاوضية كبيرة من نظيره الأمريكي، حيث يلاحظ أن الإتفاق الأخير قد تضمن الإفراج عن مليارات الدولارات من الأموال الإيرانية المجمدة بالإضافة إلى إتمام عملية متبادلة لإطلاق سراح المسجونين، وهذ مقايضة قد تبدو غريبة من نوعها، حيث جرى العُرف في مثل هذه الإتفاقات على خطوات متساوية يتبادلها الطرفان ما لم يكن هناك مسجون على درجة عالية من الأهمية والحساسية لطرف دون الآخر، وهو أمر غير متوافر في الحالة الأمريكية، فالسجناء هما رعايا أمريكيين ليس بينهم مسؤول رسمي أو غير ذلك، ولكن الدافع القوي هنا كان رغبة إدارة الرئيس بايدن في تحقيق أي إنجاز يمكن لها تسويقه سياسياً للرأي العام في ظل تآكل رصيد الإدارة من الإنجازات على صعيد السياسة الخارجية بشكل عام في الآونة الأخيرة.

دلالات إتفاق تبادل الأسرى تفوق محتواه وتطال إطار الحوار الإيراني ـ الأمريكي الأوسع أو الأشمل الخاص بإحياء الإتفاق النووي، حيث يتضح للمراقبين أن الإتفاق الأخير يشير إلى أن مسألة التوصل إلى صيغة إتفاق لإحياء “خطة العمل المشتركة” ليست مستبعدة، ولا يعرقلها سوى الصيغة التي تحظى بقبول الطرفين الإيراني والأمريكي معاً، وأن الأمر كله يبدو قيد الشد والجذب وحسابات المكاسب والخسائر لكل طرف على حدة، ولكن محتوى إتفاق تبادل الأسرى يعكس كذلك نجاح إستراتيجية الصبر الإيرانية في إنتزاع تنازلات كبرى من المفاوض الأمريكي، وهو ما يمكن أن ينسحب على أي صفقة لإحياء الإتفاق النووي، علماً بأن هذه ليست المرة الأولى التي يحصل فيها المفاوض الإيراني على ما يريد بعد سنوات من المماطلة والتسويف؛ حيث سبق ان إنتزع الإيرانيون مكاسب إستراتيجية مهمة للغاية من خلال بنود “خطة العمل المشتركة” ، التي وقعتها إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما ضمن مجموعة “5+1” مع الجانب الإيراني، وهي في الحقيقة لم تكن سوى غطاء أضفى الشرعية الدولية على الأنشطة النووية الإيرانية ومنح إيران فرصة تاريخية للتمدد الإستراتيجي وإطلاق يدها إقليمياً، ناهيك عن مواصلة برنامجها الصاروخي، وتطوير المسّيرات، في حين أن الإتفاق ذاته لم يكن سوى تأجيل للطموحات النووية الإيرانية وليس تجميدها بشكل نهائي.

أبرز رسالة من رسائل الصفقة الصغرى الخاصة بتبادل السجناء هي، برأيي، أن هناك فرصة كبيرة لإستنساخ صفقة كبرى تخص إحياء الإتفاق النووي، وأن إتمام الصفقة الصغرى يشير إلى إمكانية المضي قدماً في الصفقة الكبرى، طالما توافرت المعطيات وتهيأت الأجواء لذلك، وأن المسألة قد لا تتعلق بموضوع السجناء فقط، لاسيما أن الجانب الإيراني قد أشار مراراً إلى أن المفاوضات مع الولايات المتحدة تتضمن كل ملفات الخلاف، ولا تقتصر على موضوع السجناء، وبالتالي يصبح من الوارد فعلياً أن يتم الإعلان تدريجياً عن بقية ما تم الإتفاق عليه أو الكشف عن الصفقة الكبرى.

السبب الذي يجعلني أرجح ما سبق أن الشروط المعلنة للافراج عن السجناء ليست منطقية ولا حتى معقولة، وبالتالي يبدو أننا بصدد قمة جبل الجليد، وأن الولايات المتحدة وافقت على منح الإيرانيين انتصاراً دعائياً مقابل الحصول على الإتفاق الذي “تحلم” به إدارة الرئيس بايدن وهو إحياء الإتفاق النووي، وقناعتي أن الإفراج عن مليارات الدولارات من الأموال الإيرانية قد تكون رافعة تمهيدية ضمن تفاهمات أوسع تم التوصل إليها لإقناع الإيرانيين بالمضي قدماً في الصفقة الكبرى الخاصة بإحياء الإتفاق النووي. ثمة سبب آخر يتمثل في الزيارة التي قام بها مسؤول روسي بارز إلى طهران فور الإنتهاء من إتفاق تبادل السجناء، حيث قام نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، بإجراء مشاورات مع نواب وزراء الخارجية الإيرانيين في طهران، حول آفاق خطة العمل الشاملة المشتركة لتسوية البرنامج النووي الإيراني، وأشارت وزارة الخارجية الروسية إلى أنه “تم التأكيد على عدم قبول أي محاولات من جانب الغرب لفرض بعض المخططات والنهج الجديدة لحل المشاكل المتعلقة بخطة العمل الشاملة المشتركة، التي تنطوي على إلحاق الضرر بالتعاون الروسي الإيراني المشروع والمفيد للطرفين في مختلف المجالات، ما يعني أن روسيا سارعت إلى التعرف إلى خطوات إيران من أجل تفادي أي تفاهمات قد تضر بمصالحها الإستراتيجية.

هناك تقارير إعلامية أمريكية وإسرائيلية تفيد بوجود قناعة إسرائيلية بأن إتفاق تبادل السجناء ليس سوى جزء من تفاهمات إيرانية ـ أمريكية أوسع، وأن هناك صيغة جاهزة تتعلق بالملف النووي، وقناعتي ـ كمراقب ـ أن هذه الإحتمالية مرجحة بالفعل للغاية، في إطار ما نراه أمامنا، وأن المسألة لا ينقصها سوى الإعلان الرسمي حيث يتم وضع الرتوش النهائية على صيغة الإخراج الرسمي للصفقة الكبرى المرتقبة، وأن كل ما نراه من “مشاهد” تتعلق بتعزيز الوجود العسكري الأمريكي بالقرب من الخليج العربي، وردود إيرانية على هذه “الاستفزازات” الأمريكية ـ بحسب الوصف الإيراني، ليس سوى جزء من سيناريو الإخراج الرسمي للصفقة.

د. سالم الكتبي

باحث وكاتب رأي ومحلل سياسي إماراتي حاصل على شهادة الدكتوراه، بميزة مشرف جدا مع التوصية بالنشر، من جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء. كاتب مقالات في العديد من الصحف والمواقع الالكترونية العربية والدولية. عضو في نادي الصحافة ببروكسل – نادي لندن للصحافة – الاتحاد الدولي لصحفيين – الاتحاد العام لصحفيين العرب – جمعية الصحفيين في الإمارات – عضو بالمعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن (تشاثام هاوس) – جمعية الإمارات لحقوق الإنسان.

Back to top button