قصة “المنقوش” وأزمة ليبيا الحقيقية
د. سالم الكتبي

النشرة الدولية –

لقاء وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين مع وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش في العاصمة الايطالية روما تحول إلى أزمة سياسية داخلية ليبية توافق الجميع ضمنياً على حلها بجعل “المنقوش” كبش فداء لما اعتبروه خيانة عظمى، حيث أصدر رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة، قراراً بوقفها عن العمل احتياطيا وإحالتها للتحقيق، وهناك تقارير عن إقالتها من منصبها، ولا فرق طالما أن الأمور قد وصلت إلى هذا الحد.

تساؤلات عدة تطرح نفسها على خلفية ماسبق: هل الأزمة في اللقاء أم في الكشف عنه إعلامياً أو بالأحرى تسريبه من الجانب الإسرائيلي؟ وهل اتخذت “المنقوش” قرار تطبيع علاقات بلادها مع إسرائيل بمفردها أم أنها حصلت على ضوء أخضر مسبق من رئيسها الذي اتخذ قراراً بوقفها عن العمل أو حتى إقالتها؟!

مسؤول إسرائيلي قال لوكالة “رويترز” أن اللقاء تم الإتفاق عليه مسبقاً “على أعلى المستويات” في ليبيا، والكثير من المراقبين، وأنا منهم، نميل إلى تصديق هذه الرواية لأنها ببساطة منطقية وتتماشى مع طبيعة الامور المتعارف عليها في العمل السياسي والدبلوماسي، لاسيما إذا تعلق الأمر بقرار كبير مثل تطبيع العلاقات بين الدول وغير ذلك.

صحيح أن الكشف عن اللقاء من الجانب الإسرائيلي قد تسبب في اثارة الأزمة ولكن اشتعالها وما آلت إليه من هروب أو بالأصح السماح بهروب الوزير المعنية إلى تركيا هو في صميم مسؤولية رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية، الذي لم يتحمل مسؤولية موقفه السياسي بل تصرف بشكل غريب للغاية في موقف يدرك الجميع حدود المسؤوليات فيه من دون نقاش!

هذا الحدث أثبت كارثية غياب الدولة الليبية وتعدد مراكز صنع القرار وما يجلبه كل ذلك من مزايدات سياسية وتوظيف لكل صغيرة وكبيرة في إطار الصراع على السلطة، حيث تحول اللقاء إلى أزمة سياسية داخلية وفرصة للهجوم على الحكومة المؤقتة التي تعد جزءاً من معضلة الإنقسام الداخلي الحاد في ليبيا.

بلاشك أن إقامة علاقات مع إسرائيل أو غيرها ينبغي أن يكون قراراً قائماً على مصالح الدول والشعوب وليس التخمينات والاستنتاجات ورسائل “السوشال ميديا”، ناهيك عن المزايدات السياسية والأيديولوجية، التي لا يزال الكثيرون في عالمنا العربي يتخذونها متكىء لهم في الحياة العامة، ولهذا فإن الدبيبة قد أخطأ، برأيي، مرتين: الأولى حين وافق، ولو بالصمت، على المضي في خطوة لم يكن مستعداً لتحمل فاتورتها السياسية أياً كانت، ويريد فقط الاكتفاء بأي مردود إيجابي لما يتخذ من قرارات وما يوافق عليه من سياسات ولقاءات، ثم اخطأ مرة ثانية حين بادر إلى إيقاف الوزيرة المنقوش ثم اتجه إلى إعلان اقالتها من منصبها من داخل الممثلية الفلسطينية لدى ليبيا، من دون أن يوضح كيف يمكن لوزيرة خارجيته أن تجري لقاء على هذا المستوى مع نظيرها الإسرائيلي، وبعلم وزير الخارجية الايطالي من دون أن تخطر رئيس حكومتها! .

السياسة هي فن الممكن كما يعلم الجميع، وربما يحتاج تطبيع العلاقات بين إسرائيل وليبيا إلى وقت إضافي، ولكن الثابت أن أساليب وأدوات وشعارات خمسينيات القرن الماضي لا تصلح لحكم الحاضر والمستقبل، فقد جرت مياهاً كثيرة في بيئة العلاقات الدولية، وكذلك في قنوات العلاقات العربية ـ الإسرائيلية، وباتت العلاقات الرسمية التي تربط إسرائيل بالكثير من دول المنطقة حقيقة واقعة لا يمكن انكارها.

وإذا كان لكل دولة حساباتها الخاصة في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل من عدمه، ولها حق تحديد موقفها وبوصلتها السياسية وتوقيت أي قرار سيادي تتخذه، فإن الثابت في هذا كله القضية الفلسطينية لم تعد تتحمل المزيد من المزايدات والشعارات سواء من أصحابها أو من الشعوب والساسة العرب، وأن مواجهة الواقع والتعامل بواقعية وبناء تقديرات ومواقف قابلة للتطبيق تضمن تحقق مصالح الدول، وتسهم في الوقت ذاته في الدفع باتجاه الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، هو أحد السبل التي يمكن من خلالها البحث عن تسويات ومخارج لقضية عادلة عانت طويلاً من المتاجرين والمزايدين الذين وظفوها لتحقيق مصالح خاصة من دون أن يحققوا للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة أي مردود إيجابي.

الدبيبة لجأ إلى الحل الأسرع والأسهل، وهو الإنكار محملاً وزيرة خارجيته مسؤولية اللقاء، متناسياً أن هذا الحل لن يقنع أحداً بالداخل أو الخارج، وأن عليه أن يتحمل مسؤوليته كسياسي يفترض أنه يقود حكومة في بلد مأزومة، وتحتاج بشدة إلى قيادات قادرة على الحل والعقد لا التهرب من المسؤوليات.

لم تجتمع الحكومات والمجالس العديدة المنتشرة في ليبيا منذ بدء الأزمة على موقف كما اجتمعت على التسابق في رفض لقاء المنقوش مع نظيرها الإسرائيلي، بدعوى الخيانة وانتهاك ثوابت ليبيا، وقد يكون ذلك صحيحاً من وجهة نظرهم وليس لأحد أن يناقشهم في ذلك، ولكن أليس الإجماع على أمن واستقرار الشعب الليبي أولى وأهم كثيراً من من الإجماع على رفض لقاء دبلوماسي يجمع معالجة مخرجاته بشكل وطرق سياسية أخرى عديدة؟ ثم أليس وقف الاحتراب والصراع الأهلى أولى بالاجماع بين مجالس النواب والمجالس الرئاسية وغيرها من الأطر الحزبية والقبلية من وقف التفكير في تطبيع العلاقات مع إسرائيل؟ أليس توحيد شطري ليبيا، شرقها وغربها، واستعادة سيادة الدولة تحت علم وراية واحدة بعيداً عن خطر التفكك وشبح التقسيم الذي يخيم على البلاد ويكاد أن يتحول إلى حقيقة واقعة، والذي هو أحق بالغضب والغيرة الوطنية من لقاء دبلوماسي حتى لو كان مع وزير إسرائيلي تراه شريحة من الليبيين عدواً لهم!

لا أحد يزايد أو يرفض من أجل مصلحة ليبيا وشعبها، وماحدث من الدبيبة الذي قام بتهريب وزيرة خارجيته إلى تركيا هو خير برهان على أن الفيصل هو المصلحة الذاتية وليس غيرها، فلو أنه مقتنع بأن الوزيرة المنقوش قد اتخذت خطوة فردية لكان من الممكن ببساطة إقالتها من منصبها بدون ضجة أو تهريبها بهذا الشكل المسىء.

 

د. سالم الكتبي

باحث وكاتب رأي ومحلل سياسي إماراتي حاصل على شهادة الدكتوراه، بميزة مشرف جدا مع التوصية بالنشر، من جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء. كاتب مقالات في العديد من الصحف والمواقع الالكترونية العربية والدولية. عضو في نادي الصحافة ببروكسل – نادي لندن للصحافة – الاتحاد الدولي لصحفيين – الاتحاد العام لصحفيين العرب – جمعية الصحفيين في الإمارات – عضو بالمعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن (تشاثام هاوس) – جمعية الإمارات لحقوق الإنسان.

زر الذهاب إلى الأعلى