زياد أبو عبسي توارى علامةً خلف جبال المسرح
النشرة الدولية – هالة نهرا
غيابه يصبّ علينا ألوان قهقهاته ونكات السماء وقد توارى علامةً خلف جبال المسرح. ضحكته لا تزال تتأرجح في أذنيَّ وهو الودود المرهف الهازئ بعبثية الحياة ودراميّتها. أتقن الإيماض بهامته وحضوره حافراً ظلّه في أرواح أصدقائه ورفاقه، وكلّ الذين عرفوه وأحبّوه.
في لقائنا الأخير أخبرني بأنه أنجز إخراج وتقديم مسرحية “بيت الدمية” للكاتب هنريك إبسن Henrik Ibsen. هذه المسرحية عملٌ نموذجيٌّ ومثالٌ للعمل الواقعيّ الحديث وقد ظنّها بعضهم عملاً كلاسيكياً، وقال لي إنه يفكّر في إخراج مسرحية للكاتب السويسري دورينمات Friedrich Dürrenmatt. المسرحية بعنوان “هبط الملاك في بابل”.
كما أفادني بأنه كان بصدد وضع اللمسات الأخيرة على نصٍّ مسرحيٍّ استغرق ثلاث سنوات لكتابته، علماً أنّ أحداث المسرحية تدور في مدينةٍ تلألأت في خياله. أمّا موضوع المسرحية، فمتمحورٌ حول الخوارق الطبيعية التي تبدأ بغير العاديّ والمألوف؛ بما يوقظ الدهشة، وتنتهي بمفاجأةٍ تثير الضحك على نحوٍ غير متوقَّع. لطالما شفّت عينا زياد أبو عبسي عن عمقٍ نادرٍ وطيبةٍ استثنائية وشفافية. معه تغيّرَ فنّ الحوار الكلاسيكيّ وتبدّلت أدواته فلا يمكنك إلا الإنصات حتى النهاية لإسهابه الكلاميّ المميّز ونداء روحه المتصاهلة. عرفه الجمهور ممثِّلاً مبدعاً على خشبة مسرح زياد الرحباني وسينمائياً في فيلم “وهلّأ لوين” لنادين لبكي، لكنّ قلّةً كانت تعرف أنه كان أيضاً أكاديمياً انتقائياً بارعاً ومثقفاً كبيراً يتسلّح برؤى نظريةٍ ونقدية.
قال لي إنّ المسرحَ في لبنان فنٌّ قائمٌ لكنّ الجمهور يفتقر ههنا أحياناً إلى معرفة مفهوم المسرح والصعوبة تكمن في تكوين المفهوم العام للمسرح، فهذا المفهوم يتأسّس في المجتمع.
إذ أنّ المسرح أو الأعمال المسرحية وطرائق تنفيذها تتأثّر بالمفاهيم العامّة والسائدة بما يخصّ ثقافة المجتمع. الثقافة في تعريف زياد هي مجموعة المبادئ السلوكية التي يتحلّى بها المجتمع بأفراده كافة، أي وفقاً لشرحه ورؤيته فإنّ الثقافة ببساطةٍ واختصارٍ تتمثّل بمبادئ التعامل التي ينطلق منها الأفراد في تعامل بعضهم مع بعضهم الآخر. تتشارك المجتمعات في بعض المبادئ وتختلف في بعضها الآخر.
ما هو مشترك إنسانياً يُسمّى بالعام. أمّا ما ليس مشتركاً على هذا الصعيد، فهو خاصية اجتماعية.
إنّ دراسة المسرح تشتمل على الخاص والعام، على حدّ تعبيره. دارس المسرح يبذل جهداً لا يُستهان بأهمّيته في إغناء مخزونه الفكريّ والبحث عن المعرفة من خلال القراءات التي تُعنى بالفكر النقديّ، إضافةً إلى ما تحكيه الروايات وخلاصات وومضات دواوين الشعر، وكتب العلوم الاجتماعية، وسواها من الكتب الفكرية وربما الفلسفية.
كانت حواراتي مع زياد أبو عبسي ممهورةً بخفّة ظلّه الآسرة وارتياده طفولته حيناً، وبالتجريد الذهنيّ الثقيل والدسم أحياناً.
ذهب زياد وبقي أثره مصباحاً وطيفه مرجعاً. كان يدرك أنّ الخلود عباءته وحصنه بعد الرحيل. لا نحتاج إلى مناسبةٍ تقليديةٍ أو ذكرى لنذكر زياد ونذكّر بأهمّيته. على اسمِهِ المُشرق لبنانياً وعربياً في أفضية المسرح والتمثيل والثقافة والمعرفة السلام الأبديّ ولروحه الظريفة النضيرة السكينة والراحة الدائمة. في النديّ والنقيّ والوازن والمُكوكَب يقطن اسم زياد. ||