الروائى الراحل خالد خليفة: دمعة عندما تذكرنا ياسمين الشام
بقلم: حسين دعسة

النشرة الدولية –

الدستور المصرية –

.. ما بين التعب الذى أعيش، جاء نعى الكاتب الروائى السورى العربى خالد خليفة، تاركًا ندب العزلة والصمت تحرق فينا، لا أدرى إلى متى؟.

«خليفة» اختار النجاة، ترك شوارع العربية مشرعة على الخوف والصمت والموت.

*طوبى لكل شاهد على ظل المحب

.. فى سيرة المبدع الذى نجا، يلزمنا الظل التعرف على صاحب روايات وحكايات كثيرة، عقدت منذ ظهورها دهشة التلقى:

أصدر «خليفة» ست روايات، من أهمها [مديح الكراهية] التى وصلت للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية البوكر عام 2008، لكن الجائزة لم تكن الحلم الذى يطمح له، برغم أن الرواية تجاوزت واقعها لتصل إلى شريحة واسعة من القراء.

أما رواية [لا سكاكين فى مطابخ هذه المدينة]، فقد حققت للراحل حضوره الواسع فى الثقافة المصرية والعربية، وهى نالت جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأميركية بالقاهرة عام 2013، وجرت حولها القراءات النقدية والنظرة السياسية، بالذات بعد ترجمتها للإنجليزية.

 

 

.. قبل الحديث عن الصديق الذى نجا، أوقفنى النفرى عند باب الرجاء، باب العزلة والصمت، ذكرنى بتلك الصوفية المفتقدة، ومع النفرى قال، قبيل لحظات تعب القلب:

-طوبى للمحبين!

.. لهذا: لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقد اختارهم طير السماء للتحليق بعيدا، لماذا يا خالد خليفة، لماذا هذا الحديث عن [الموت عمل شاقّ] روايتك الموسوعة، ولا أعتقد أنها من اوراقك الأخيرة.

* خالد خليفة.. النوبة الأخيرة.

كان غياب ووفاة «خليفة» إثر نوبة قلبية – هل كانت الأخيرة؟ – فقد عاش رفيقا لنديح الموت والصمت والكراهية وحروب الشوارع، عاشها، ناهزت المعاناة معه إلى حد 59 عامًا، وهو الذى عاش طفولته فى حلب، منذ رأت عيناه قلعتها وزقاقها ومصان صابونه وحلوياتها ورائحة الياسمين والشوكولاته.

عام الميلاد حقيقة 1964، لكن النجاة صعبة، فقد ترك الحصان وحيدا ينتظر هدوء عالم الموت والكراهية.

* اللعبة بدأت.. حقًا

فى شخصية الراحل، ذلك الزاهد، الذى أوقد شعلة قدراته تنفجر مرة ومرات منذ تعلق عالمنا بمديح الكراهية، اللعبة فى كتاباته تجاوزت مراحل العمل السياسى، والثقافى، كان حضوره لذيذا، ففى صمته عاش وهم الخلاص، خلاص الناس من لعب الأطفال التى تحيكها لعبة السياسة الحروب، مشانق الموت، الكائنات التى ترافقنا فى أى حلم.

قال الأصدقاء مراثى الذى نجا، حقا، خالد خليفة كان فى زاوية الزهد، القلق، العزلة، الصمت خوفًا على حلب، ودمشق اللاذقية. وهو وضع عينه فى رؤاه: حياة تؤخذ مجابهةً؛ حرَّكَ هذا الدافعُ أبطالَ وبطلات روايته، وكذلك سيرة حياته مُنجذِبًا للحب والمغامرة ولحظات التواصل الصادقة، والصداقات التى كان سهلًا عليه تكوينها، أى باختصار كل ما هو إنسانى بأطيافه الواسعة، كما قيل وسيقال عن رواياته، مشاهد حياته وحياتنا أيضا.

*العراب الذى اختار الراحة.

 

قال من كتب عنه، إنه كان عرَّابًا لقصص حب الآخرين ومُنكبًَّا على الكتابة فى المقاهى، بين الناس وفى وسط الضجيج مُصغيًا لما يدور حوله. من هنا جاء عنوان نسر على الطاولة المجاورة، آخر كتبه الذى تضمَّنَ تأملاتٍ شخصية فى الحياة والكتابة، هى حصيلة أعوام قضاها متأملًا حياة الناس من حوله، على طاولات مجاورة فى مقاهٍ وبارات، وفى مدن سافر إليها؛ لكنه سرعان ما كان يسأم من أى سفرة طويلة، مُشتاقًا لأماكنه المألوفة وصحبه بين دمشق واللاذقية. تنقَّلَ خليفة على الدوام بين خَطَّى العزلة التى احتاجها وبرعَ فى المحافظة عليها أيًا كانت درجة انشغاله مع من هم حوله، والتوق للألفة والتواجد فى حياة رفقائه، من أحبهم وأحبوه.

 

.. وعن رواية الموت عمل شاق:

فى روايته الأخيرة لم يُصلِّ عليهم أحد سنجد صورة من صور وحدةٍ لم يَبدُ أن الازدحام من حوله قد ساهم فى تبديدها، مع رحيل من كانوا يومًا يملأون المكان من حوله. فى الرواية أشخاصٌ وحيدون فى الخراب، بعد طوفان أغرق قرية فى محيط حلب، فى سردٍ لقصة خيالية عَلقِتْ به مواقف وأفكار وهواجس من وقائع السنوات السورية الأخيرة، كما «تعلقُ رائحة الموت فى الثياب» بحسب ما جاء فى الرواية. حملت هذه الرواية، كما رواياته الأخرى وكما حياته، اندفاعًا ينطلق من أسئلة وتأملات جوّانية إلى الخارج، إلى العالم واحتمالاته الواسعة، من العزلة إلى حيث توجد حكايا المُهرّبين والأفَّاقين والمُقامرين الذين يُضيعون فى لحظة تَهوّر فادحة أثمنَ مقتنيات حياتهم. مع خالد، سنتعرّفُ إلى شخصيات تندفع للمغامرة وتعيش رفاهية البُطء فى آن معًا.

* فى وصف الموت مؤشر حياة

يقول الروائى التونسى كمال الرياحى:

شعرية الجثة فى «الموت عمل شاق»، لا شىء أقوى من الموت فى سوريا. هذه هى الفكرة التى يخرج بها أى متابع للشأن السورى. فـ«القتل فى كل مكان»، والموت يأتى من أى مكان مذكرا بعبارة معين بسيسو فى قصيدته «سفر سفر.. يأتى إليك الرصاص من كل الجهات الأربع» فى ظل هذا المشهد السوريالى يكتب الروائى والسيناريست السورى خالد خليفة روايته الجديدة «الموت عمل شاق» بعد «مديح الكراهية» و«لا سكاكين فى مطابخ هذه المدينة» و«حارس الخديعة» و«دفاتر القرباط» ليروى ورطة «الجسد الفائض» أو الجسد الخارج عن الخدمة ومواجهة المثل الجبان «الحى أبقى من الميت».

 

* تحليل الرياحى لحالة خليفة: الموت و«الوصية المغدورة»

 

تنطلق الرواية من وصية تبدو بسيطة جدا، طلب الأب المحتضر عبد اللطيف السالم من ابنه بلبل أن يدفنه بقريته العنابية بجانب أخته ليلى. لا شىء مثيرا ولا غريبا فى هذا الطلب الذى يبدو فونتازم المحتضرين جميعا عبر التاريخ فونتازمات «الأجساد المهزومة» كما يسميها «لوبروتون» فى مؤلفه «انتروبولوجيا الجسد والحداثة». فالكل يريد أن يدفن فى قريته وبجانب عائلته وكأنما يخشى الواحد منهم المقبرة ويعتقد أنه سيكون فى طمأنينة بين أهله.

 

«بلبل فى لحظة شجاعة نادرة، وتحت تأثير كلمات الفراق الأخيرة وعينى أبيه الغائمتين الحزينتين، تصرف بثبات ودون خوف، ووعد أباه بتنفيذ وصيته التى كانت برغم وضوحها وبساطتها مهمة شاقة».

 

ولكن المأزق يبدأ من لحظة الرحيل وبداية تنفيذ الوصية، فالوصية البسيطة لم تعد بسيطة لأن الحركة محفوفة بالموت كما المشى على أرض مزروعة ألغامًا والجغرافيا السورية لم تعد موحدة، والعبور من مكان إلى آخر مهما كان قربه مغامرة مهلكة. و«القتلى فى كل مكان، يدفنون فى مقابر جماعية، ودون تدقيق فى هوياتهم. مراسم العزاء حتى بالنسبة للعائلات الغنية اختصرت إلى ساعات قليلة».

 

هكذا تحول الموت فى سوريا إلى أكثر الأشياء توزيعا بالعدل بين الناس فالكل يقتل والكل يحتفل بموته بالطقوس نفسها فقد تغيرت طقوس تلقى خبر الموت، بعد أن صار الموت خبرًا يوميًا لا دهشة فيه.

 

«قليل من الورد، معزون قلائل يتثاءبون فى صالة شبه فارغة لمدة ساعتين، مقرئ يتلو سورا قليلة من القرآن بصوت منخفض، وينتهى كل شىء».

 

هكذا قارب خالد خليفة مأساة الأسرة السورية لا من خلال ما تعيشه من فقر وحاجة وتحطم أحلامها فقط بل من خلال تحقيق أبسط الأمنيات وهى حقها فى الدفن. لنكون أمام جثة خاصة جدًا ليست من جثث أغاثا كريستى وجثث الروايات البوليسية وأدب الرعب أوجثث ماركيز فى روايتيه «أجمل غريق فى العالم» و«خريف البطريرك» أو جثة بالومينو موليرو لماريو فارغاس يوسا ولا جثث القتلى المنتظرين فى أعلى الجبل اعتذار القتلة فى رواية سليم بركات «سجناء جبل أيايانو الشرقى» إنما هى جثة مواطن سورى بسيط فى حرب أهلية.

 

 

 

أدهشنى الروائى الذى يدرس النص، يرى جسد الذى نجا ويقترن بالجثة وحيدًا.. لماذا يا كمال؟.

.. الرياحى، كان أكثرنا قربًا من موت الروائى، موت المكان، موت الزمان: ينطلق البرنامج السردى لخالد خليفة من فكرة تحول الجسد الحميم؛ جثة الأب إلى «عبء ثقيل» فى زمن الحرب وتتحول الوصايا البسيطة إلى أشغال شاقة تختبر فيها النفس البشرية آخر نبضها. ويبدو الإبن «بلبل» كما لو كان آخر كائن يشدو بالحياة فى زمن الموت لذلك كان عليه أن ينفذ الوصية، فعدم تنفيذها يسقط الجميع فى الموت الرمزى. فأن ندفن الجثة هو إعلان للحياة وتدليل عليها منذ «قابيل وهابيل».

 

هكذا يصبح تنفيذ الوصية والدفن الشاق عملًا سيزيفيا من أجل الحياة. فسيزيف يدفع بصخرته إلى أعلى القمة كل مرة وبلبل يجر جثة والده للدفن من جديد كل مرة فى تحد للعراقيل الكثيرة.

 

وكأنما نحن أمام خرافة من خرافات الأجداد التى تقوم حبكتها على الشروط المجحفة، فالطمأنينة هى الأميرة الطلوبة فى الخرافة والوصول إليها فى الرواية مشروط بتحقيق الوصية: الدفن المشتهى.

 

بين هذه المهالك والمزالق التى يتعرض لها المغامر بلبل مع جثة والده يكتب خالد خليفة معزوفة سردية سوريالية فى شعرية الجثة زمن حرب الكل على الكل. لنسأل عن إمكانية «الغناء العاطفى» فى غابة توماس هابز.

 

جثتان وروايتان

 

فى رواية «ميتتان لرجل واحد» للبرازيلى خورخى أمادو يهرب الأصدقاء بجثة صديقهم كينكاس هدير الماء لكى يعيش يومًا آخر فى سعادة قبل دفنه، فلا مشكلة فى الدفن، بل رأوا أن صديقهم أكبر من أن يدفن تحت التراب فاختاروا له البحر كما أراد وأطلقوه إلى الموج بعد رحلة طويلة مع الفرح.

 

على العكس من هذه الجثة السعيدة المبتسمة فى رواية أمادو تبدو جثة عبداللطيف السالم فى رواية خالد خليفة حزينة وسيئة الحظ فكل من حولها يريد التخلص منها. وخلافا لكينكاس الذى تصرخ جثته فى وجه البحر «سأدفن كما أشتهى / فى الساعة التى أشتهى/ يمكنكم أن تحفظوا تابوتكم إذن/ لميتة جديدة، وميت جديد، أما أنا فلن أترك أحدا يحبسنى، فى قبر أرضى ذليل».

 

كانت عيون عبداللطيف السالم تستجدى أبناءه أن يدفنوه فى قريته قريبا من أخته. بينما كان كينكاس يفتح فمه مبتسمًا لأصدقائه الأوغاد الذين يركضون به فى الشوارع والمنحدرات والأسواق.

هذه المقاربة المقارنة بين الجثة العربية والجثة البرازيلية تعكس نظرتين مختلفتين للعالم وتشى بالنكسة الثالثة للشخصية العربية مع ما يسمى بالربيع العربى الذى تورط فيه العربى الأخير بحثا عن الحرية وتقرير المصير ليجد نفسه غير قادر حتى على أن يدفن نفسه فى أرضه بالحرية.

هكذا يقدم لنا خالد خليفة رواية سورية اليوم بكل تعقدها من خلال محنة الإنسان على أرض مزقتها الصراعات فمزقت حتى الحميمى وباعدت بين الأموات قبل الأحياء ليطال الشتات الأمنيات الأخيرة.

غير أن إصرار «بلبل» فى الرواية على بلوغ هدفه السامى: تنفيذ وصية المرحوم ودفنه فى قريته بجانب أخته يفتح آفاقا جديدة للحلم السورى بإمكانية دفن الأحزان وعودة البلابل لأشجار سورية لتشدو بالحرية والأمل.

* سلاما لصاحب المديح، مالك السكاكين المفتقدة.

.. على الكاتب أن يعى لحظة العزلة، أن يعى معنى الصمت، عليه أن يكتب ويصرخ ويرفض، ويكون، الأثر، يعشق لأنه يريد أن يكون ذلك العاشق الحر المحلق بين القلب والظل والروح ورقة الحرير، فقد عرفت الراحل خالد خليفة من دمعة عندما تذكرنا ياسمين الشام.

زر الذهاب إلى الأعلى