الموارنة والرئاسة ومستقبل لبنان إلى أين؟؟؟
بقلم: اكرم كمال سريوي

النشرة الدولية –

كان مار مارون راهباً سريانياً سورياً، عاش في منتصف القرن الخامس للميلاد، في شمال سوريا بالقرب من جبال طوروس، أو ما كان يسمّى بمنطقة قورش قرب انطاكيا،
وتُعرف المنطقة اليوم باسم “النبي هوري”، وتقع بين مدينتي عفرين وحلب، وتُرجّح المصادر أنه توفي عام 410م.

عاش مارون وحيداً متنسّكاً في البرية، على قمة جبل، وحوّل معبداً وثنياً كان في تلك البقعة إلى مكان لعبادة الله.

في منسكه، شيّد مارون كوخاً ويقال خيمة من جلد الماعز، وأقام فيه لفترات قصيرة، إذ كان يقضي وقته في العراء مصلياً ومتعبداً، ليلاً نهاراً واشتهر بقدرته على شفاء المرضى، فلجأ إليه سكان الجوار، حتى أن بطريرك القسطنطينية يوحنا فم الذهب، أرسل إليه رسالة يطلب منه أن يذكره في صلاته.

ورث عنه أتباعه الكثير من محاسن الأخلاق، والزهد، والروحانية، وعُرف عنهم محبة الأسرة، وعفّة النساء، وتعرّضوا إلى نكبات عديدة أشهرها مجزرة سوريا.

ففي العام 512 ارتّد الملك انستاس عن مقررات مجمع خلقيدونيا، وشن حرباً على المتمسكين بتعاليم المجمع، وعندما تنادى الرهبان المؤيدون للمجمع المسكوني الخلقيدوني الى اجتماع صلح، بالقرب من دير سمعان في سوريا، نُصب لهم كمين من قبل اتباع بطرس والبطريرك ساويروس، المدعومين من الملك انستاس، واستعانوا لتنفيذ المجزرة، بمجموعة من المرتزقة غالبيتهم من اليهود، وقتلوا 350 من الرهبان المنتمين إلى دير مار مارون، وهرب بعدها الموارنة ولجأوا إلى وادي العاصي وجبال لبنان الشمالية.

في عام 828 م. وصل التنوخيون إلى جبال لبنان، وأسسوا إماراتهم في عبيه، وفي عام 1121 وصل أقرباؤهم المعنيون الدروز، وسكنوا جبال الشوف، وعندما سطع نجم الأمير فخر الدين الثاني في القرن السادس عشر، التحق الموارنة بإمارته، ورحّب بهم الدروز لأسباب عديدة، أهمها الحاجة إلى اليد العاملة، والاشتراك والتقارب في كثير من العادات والتقاليد والأسس الأخلاقية بين الأقليتين، فالمذهبان ينبعان من عقيدة الزهد والتنسّك والتقوى وتهذيب النفس، ومعاملة الجار بالحسنة، إضافة إلى احترام المرأة والروابط الأسرية، والشجاعة والمروءة والكرم وحسن الضيافة.

في بداية القرن التاسع عشر زاد نفوذ الدول الغربية داخل السلطنة العثمانية، واستخدموا المذاهب والأقليات الدينية للضغط على السلطنة، فصدر قانون “الملّة العثماني” ثم تفشّت الصراعات المذهبية بسبب هذه التدخلات، ودفع اللبنانيون ثمناً باهضاً لذلك.

عندما وصل الفرنسيون إلى لبنان في الحرب العالمية الأولى، ساندهم الموارنة للتخلص من الحكم العثماني، لكن الدروز بغالبيتهم رفضوا الاستعمار الفرنسي، وزاد عداؤهم مع الفرنسيين بعد الثورة السورية الكبرى عام 1925 التي قادها سلطان باشا الأطرش.

أنشأ الفرنسيون دولة لبنان الكبير على أساس مذهبي، ومنحوا الموارنة فيها امتيازات كبيرة في الحكم، جعلت أبناء باقي الطوائف يشعرون بالغضب من هذا الإجحاف بحقهم، الذي جعلهم مواطنين من درجة ثانية وثالثة ورابعة، غير متساويين مع إخوانهم المسيحيين عامة والموارنة خاصة.

خلال أكثر من مئة عام في لبنان الكبير، خاض الموارنة صراعات دموية للحفاظ على امتيازاتهم، وكان أخطر تلك الصراعات عليهم صراعهم مع شركائهم القدامى أصحاب إمارة جبل لبنان الدروز، وكذلك انقسامهم وصراعاتهم الداخلية بين بعضهم البعض، وحروب الإلغاء في سبيل السيطرة على المناطق المسيحية، وهذه الصراعات والانقسامات ما زالت مستمرة بينهم حتى اليوم.

ومع تبدّل الأكثرية الشعبية ديموغرافياً في غير صالحهم، واستمرار النظام الطائفي، بات الموارنة ومعهم باقي الطوائف المسيحية يواجهون خطراً وجودياً في لبنان.

اعتقد بعض قادة الموارنة أنهم قادرون على الاحتفاظ بامتيازاتهم وحكم لبنان إلى الأبد، ولم ينتبهوا إلى مسار الحرية والتغيير والوعي الاجتماعي، حين بدأ أبناء الطوائف الأخرى يطالبونهم بحق المساواة في المواطنة وفي الحقوق والواجبات.

رفض قادة الموارنة أي تغيير في نظام الحكم، ولم يستجيبوا إلى مطالب إصلاح النظام التي دعا إليها المثقفون في الطوائف الأخرى، فأعدموا بالإتفاق مع رياض الصلح، انطون سعادة (مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي)، وواجهوا دعوات كمال جنبلاط إلى العلمانية، بمزيد من التشدد والتعصب والتمسّك بالنظام الطائفي.

ساهم دخول السلاح الفلسطيني إلى لبنان في زيادة حدة الانقسام، وإشعال الحرب الأهلية، وصحيح أن التيار الناصري والعروبي أيّد وساهم في إدخال هذا السلاح، لكن الصحيح أيضاً أن مطامع قائد الجيش الرئاسية يومها، العماد إميل البستاني، دفعته إلى الموافقة والتوقيع على اتفاق القاهرة، الذي كانت عواقبه كارثية على لبنان.

عندما وقعت الحرب الأهلية، استنجد قادة الموارنة بالرئيس السوري حافظ الأسد، دون أن يُدركوا مطامع الأسد التاريخية بلبنان، فكان الدخول السوري بغطاء مسيحي، ومكث حوالي ثلاثة عقود، حكم خلالها لبنان عبر حاكم ظل عسكري، كانت قراراته أعلى من قرارات رئيسي الجمهورية والحكومة، فتراجع لبنان عشرات السنوات إلى الوراء، وعلى كافة الصُعد، واضمحل دور الموارنة، بنفي العماد ميشال عون إلى فرنسا، وإدخال قائد القوات اللبنانية سمير جعجع إلى السجن.

بعد الخروج السوري من لبنان، حاول الموارنة استعادة ما خسروه من امتيازات وسلطة، لكنهم اصطدموا بواقع جديد، وقوى سياسية جديدة، باتت أكثر منهم تأثيراً في القرار السياسي، وتشكّل ثقلاً انتخبياً يلجأ إلى استمالته النواب المسيحيون في معظم المناطق اللبنانية، وهذا جعل دور القوى السنية والشيعية أكثر تأثيرًا في انتخاب رئيس للجمهورية، وفي ظل الانقسام المسيحي، تحوّل هذا التأثير إلى دور رئيسي في تحديد اسم الرئيس.

فزعماء الموارنة اليوم لا يجتمعون على رأي، ولقد تسبب لهم منصب الرئاسة بنقمة الانقسام، وبات قسم كبير منهم مستعداً للتخلي عن كل مبادئه من أجل الوصول إلى قصر بعبدا، فالرئيس السابق ميشال عون الذي كان من الدّ اعداء سوريا وحزب الله، تخلّى عن كل شعاراته ومواقفه السابقة، وعقد صفقة معهم، أوصلته إلى الرئاسة، وما فعله عون وقبله كثيرون، لن يتورع غالبية الطامحين إلى الرئاسة عن فعله.

في أيام السلطنة العثمانية، تم تشريع قانون قتل الأشقاء للحفاظ على العرش، ويبدو أن بعض الموارنة ما زال متأثراً بالقانون العثماني، ولذلك فشعار “اوعى خيّك” لم يصمد طويلاً، وسقط عند أول مفترق رئاسي.

لا يستطيع زعماء الموارنة اليوم الاتفاق على مرشح من بينهم للرئاسة، ويرفضون فرنجية بحجة أنه مرشح حزب الله، والسؤال الذي يطرح نفسه، ماذ سيفعل أي واحد منهم، فيما لو تبنى حزب الله ترشيحه للرئاسة؟؟؟
هل سيبقى على عدائه لحزب الله ومحور الممانعة؟؟؟ أم سيوقع اتفاق “مار مخايل” جديد؟؟؟

لقد أسقط زعماء الموارنة ما كان يُعرف بلبنان القديم، ورغم شعارات السيادة وغيرها، فالممارسة تُظهر عكس ذلك تماماً، إلا إذا كان يرى البعض أن التبعية مرفوضة لإيران، ومقبولة لأمريكا والسعودية وغيرها من الدول الغنية التي تُغدق عليه بالمال، ونرى البعض يطالب علانية برئيس ترضى عنه دول الخارج، وكأن الرئيس في لبنان أصبح موظفاً، لتأمين مصالح الدول الخارجية، وليس لتأمين مصلحة لبنان.

لقد بات زعماء الموارنة أسرى كرسي بعبدا، وبعد أن كان هذا المنصب نعمة عليهم وعلى لبنان، بوجهه المسيحي المتنوع بين أشقائه العرب، أصبح اليوم نقمة على الموارنة، وعلى لبنان الذي بات رهينة الفراغ الدستوري، وسياسات التعطيل والمناكفة وانحلال المؤسسات.
لن تُنقذ الفدرالية، ولا اللامركزية المقترحة المسيحيين، بل على العكس ستكون سبباً إضافياً لانقساماتهم وصراعاتهم وتشرذم مواقفهم، ولن يكون بمقدورهم وقف قطار التغيير الديموغرافي، وإذا لم يذهبوا إلى دولة علمانية اليوم، مبنية على أسس عصرية وديمقراطية، تضمن مستقبلهم وبقاءهم في لبنان، سيجدون أنفسهم بعد أقل من ربع قرن، على هامش الدولة وخارجها، وربما سيفضّل القسم الأكبر منهم ترك لبنان.

ليس هذا الكلام من باب التهويل، بل هي حقيقة ساطعة، يُدركها أي عاقل ومحلل موضوعي، ولو رفض البعض رؤيتها الآن، فلبنان الموحد العلماني وحده ضمانة لكل أبنائه، وضمانة بقائه واستمراره بهذا التنوّع، وضمانة تطوره، بمنآى عن منطق الطائفية والتحدي والكسر والإلغاء، وشحذ مشاعر الاحتقار والكراهية للآخر.
والأهم أن قوة أي شعب أو جماعة، موجودة دائماً وأبداً، لكنها تحتاج إلى قائد فَذ يستثمرها ويوجهها في الاتجاه الصحيح، وعندها ستظهر بأبهى أشكالها.
فصحيح القول، ليس ما قاله جبران خليل جبران عن الأمة، بل الأصح أن نقول: الويل لأمة ليس فيها قائدٌ شجاع ومخلص وحكيم.

فهل يستدرك البعض ويُعيد حساباته قبل فوات الأوان وبعيداً عن مسلسل الدم؟؟؟
#حمى الله لبنان

Back to top button