حدود الدور العربي في أزمة غزة
بقلم: د. سالم الكتبي
النشرة الدولية –
في ظل التصعيد العسكري الذي يشهده قطاع غزة بعد المذبحة الدموية التي قامت بها حركة “حماس” ضد إسرائيل، يوجه الكثيرون في المنطقة وخارجها انتقادات حادة للأنظمة والحكومات العربية بشأن موقفها تجاه الأزمة ويدعونها إلى اتخاذ مواقف أكثر تشدداً وتصعيد الموقف دفاعاً عن الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يستوجب مناقشة هامش الحركة العربي المتاح دبلوماسياً وسياسياً في هذه الأزمة.
الواقع يقول أن ما يعرف بالنظام الاقليمي العربي يعاني التفكك والتشرذم منذ الفوضى التي انتشرت في العديد من دول المنطقة منذ عام 2011، حيث تسببت هذه الأزمات في غياب مفهوم مفهوم الدولة بمعناه السياسي في بعض الحالات عربياً، ناهيك عن دخول بعضها الآخر في أزمات وصراعات داخلية مستمرة حتى اليوم. وبالتالي كان من الصعب على مؤسسة العمل العربي المشترك (جامعة الدول العربية) تقديم أي إسهام أو دعم سياسي من أي نوع في الأزمات التي يعانيها بعض أعضائها لأسباب واعتبارات مختلفة، ولكنها تشترك جميعها في غياب الدور العربي الجماعي إزاء التعاطي مع هذه الأزمات. في ضوء ماسبق يصبح الحديث عن موقف عربي موحد تجاه ما يحدث في غزة أو غيرها هو مسألة لا علاقة لها بالواقع على الأرض وينتمي إلى ما يعرف بالتحليل بالتمني، وقد تابع الجميع كيف اختلفت العواصم العربية لسنوات طويلة حيال مسألة مثل عودة سوريا إلى مقعدها بالجامعة العربية، بل إن قرار عودتها لم يحظ بإجماع كامل من الدول العربية الأعضاء، وهو موقف كاشف للحالة العربية الراهنة بغض النظر عن مبررات وأسباب تحفظ بعض الأطراف العربية على عودة سوريا لمقعدها أو تأييد هذه العودة.
في الحديث عن الموقف العربي إزاء الأوضاع في غزة يمكن التطرق إلى نقاط أساسية أولهما تتعلق بالواقع العربي، والثانية ترتبط بالبيئة الاستراتيجية الدولية للأزمة ومواقف القوى الكبرى إزاء ماحدث، وثالثها يتعلق بمجريات الأحداث في القطاع الفلسطيني وتسلسل الأحداث منذ البداية وحتى الوقت الراهن. بالنسبة للواقع العربي الذي تناولته في بداية مقالي هذا، فهو واقع مهترىء يعاني التفكك وهذه حقيقة لا يمكن انكارها أو القول بأنها غير حقيقية، ولولا أن هناك دول عربية مؤثرة وفاعلة مثل مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، تقوم بدور فاعل في الدفاع عن المكتسبات والمصالح لتغير الواقع الاستراتيجي العربي إلى ما هو أسوأ مما نراه بمراحل.
وفي النقطة الثانية الخاصة بالمواقف الدولية الراهنة حيال ما يحدث في غزة، فالجميع يتابع الدعم الغربي غير المسبوق لإسرائيل في هذه الأزمة، وهو دعم غير مفاجىء في توجهاته، ولكنه لا يفوق التوقعات من حيث مستوى الدعم وسرعة التحرك الداعم لإسرائيل، والسبب في ذلك يعود إلى أن إسرائيل قد تعرضت لمجزرة دموية إرهابية من جانب حركة “حماس”، ما تسبب في وقوع ضحايا إسرائيليون بالمئات من المدنيين والعسكريين، فضلاً عن حالة الصدمة التي أصابت المجتمع الإسرائيلي جراء كثافة الهجوم الذي لم تتوقعه الأجهزة والمؤسسات الإسرائيلية المعنية، فضلاً عن أن هجوم “حماس” قد أسفر عن وقوع رهائن من رعايا دول غربية عدة من بينها الولايات المتحدة ودول أوروبية وآسيوية أخرى، وبالتالي بات تحرك العواصم الغربية الكبرى سريعاً وضرورياً ليس فقط لاثبات مساندتها لإسرائيل في مواجهة أحد أخطر الأزمات التي واجهتها في تاريخها، ولكن أيضاً لمحاولة تخليص الرهائن من رعايا هذه الدول، لاسيما في ظل استمرار الاشتباكات وتزايد احتمالات مقتل الرهائن، سواء بسبب الهجمات المتبادلة بين التنظيمات الفلسطينية والجيش الإسرائيلي، أو بسبب تهديد القادة العسكريين الفلسطينيين بقتل الرهائن في حال استمرار الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة.
ثالث النقاط المرتبطة بالموقف العربي تجاه غزة يرتبط بتسلسل الأحداث حيث تبدو الهجمات الأخيرة التي شنتها حركة “حماس” غير مسبوقة سواء في حجمها التدميري وخسائرها البشرية على الجانب الإسرائيلي، أو في كون “حماس” كانت البادئة هذه المرة على خلاف جميع المرات السابقة التي قدمت فيها الحركة نفسها باعتبارها “رد فعل” لعملية عسكرية إسرائيلية في الأراضي الفلسطينية؛ حيث يشار إلى أن هجوم “حماس” لم يكن مفاجئاً لإسرائيل فقط بل أيضاً للأوساط السياسية العربية والفلسطينية نفسها من قادة السلطة الفلسطينية المعترف بها دولياً في الضفة الغربية، حيث أٌسقط بيد الجميع ولم يكن هناك أي مجال لبناء مواقف سياسية أو التخطيط لتحركات دبلوماسية إقليمياً أو دولياً، فضلاً عن أن الخطايا الحمساوية التي ارتكبت أثناء المجزرة مثل مقتل مدنيين سواء إسرائيليين أو أجانب، أو التهديد بقتل رهائن على طريقة تنظيمات الارهاب الدموية مثل “داعش” و”القاعدة” يمثل إساءة شديدة لسمعة القضية الفلسطينية وصورتها الذهنية عالمياً، ويشوه كفاح الشعب الفلسطيني الذي يدافع عن حقوقه المشروعة، ويحظى بتعاطف دولي واسع، وهو ما غاب وتراجع كثيراً في الأزمة الراهنة بسبب صعوبة موقف المدافعين والمتعاطفين مع القضية الفلسطينية، وتحققت الأفضلية إعلامياً وسياسياً وأخلاقياً للجانب الإسرائيلي بسبب أخطاء “حماس” واندفاعها المدعوم إيرانياً لخوض مواجهة عسكرية مفتوحة غير متكافئة تماماً مع الجيش الإسرائيلي، ناهيك عن أن التحرك “الحمساوي” قد أسفر عن أزمة عميقة لدولة عربية كبرى مثل مصر التي باتت في مواجهة سيناريو خطير للغاية يتعلق باحتمالات ترحيل نحو مليوني فلسطيني من أبناء غزة إلى الأراضي المصرية مع كل ماينطوي عليه هذا السيناريو الكارثي بالنسبة للأمن القومي المصري، وهذا يدفع القاهرة بطبيعة الحال للتركيز على تحصين أراضيها من تحقق هذا السيناريو ومنح الأمر أولوية تفوق أي أولويات أخرى مرتبطة بهذا الملف العربي الشائك. كما أن السلوك الحمساوي الارهابي قد وضع دولة عربية أخرى كبرى مثل المملكة العربية السعودية في حرج بالغ، وبدا وكأنها محاولة للإضرار بمصالحها وإفشال تصوراتها للبحث عن الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، ناهيك عن زج الإعلام الموالي لحماس والتنظيمات التي تزعم الدفاع عن الفلسطينيين، باسماء دول عربية أخرى بشكل مسىء في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالشأن الفلسطيني وهذا كله يجعل من الحديث عن دور عربي جماعي فاعل مسألة محفوفة بالشكوك.
في ضوء كل ماسبق، يصعب الحديث عن هامش حركة دبلوماسي عربي لدعم القضية والشعب الفلسطيني في هذه الظروف المعقدة والمتشابكة، ولذا غلب التردد والارتباك والتأخير على المواقف وردود الفع العربية الرسمية، حيث يصعب أن تتحرك الدول والأنظمة العربية بموجب سلوك إرهابي غير سوي ومتهور لفصيل فلسطيني موال لدولة إقليمية يعرف الجميع توجهاتها وأهدافها التوسعية التي لا علاقة لها بالقضية والشعب الفلسطيني، وإذا كانت القمم والاجتماعات العربية السابقة لم تحقق تقدماً على صعيد تسوية القضية الفلسطينية سياسياً منذ طرح مبادرة السلام العربية في قمة بيروت عام 2002، فمن الصعب توقع حدوث حلحلة في الموقف العربي الرسمي المشترك في أي اجتماع متوقع سواء في ضوء متغيرات الواقع الاستراتيجي المعقد، أو في ظل الحالة الاستثنائية التي أفرزها هجوم “حماس” ضد إسرائيل، أو لأن الواقع العربي نفسه لا يسمح ببلورة مواقف مشتركة مغايرة لما سبق.