مشهديّة الجوائز العربيّة
أ. د. سناء الشّعلان (بنت نعيمة)/
موضوع الجوائز العربيّة هو موضوع يمكن وصفُه بالمشكلِ والجدليّ في المشهد الإبداعيّ العربيّ الحديث، وهو يقودنا إلى حديثٍ يطولُ، ويتشّعبُ، ولا يمكن تلخيصه إلّا في ومضاتٍ عاجلةٍ كلٍّ منها يحتاج إلى وقفةٍ وتأمّلٍ ورصد للآراء المتجاذبة فيه؛ فالجوائزُ العربيّةُ تشهدُ لغطاً كبيراً، وآراءً متضاربةً، بعضُها مطلقٌ على عواهنه، والآخرُ منها يبرّر وجودَه وطرحَه.
نحن هنا نتحدّث –بالتّأكيد- عن الجوائز العربيّة في حقلِ الآداب والإبداع فيه، وأحياناً في حقل التّربية إنْ كان هذا الحقل معنيٌّ –بشكل أو بآخر- بالمؤلفات الإبداعيّة أو التّعليميّة للنّشء، دون التطّرّقِ بأيّ شكل من الأشكال للحديث عن الجوائز في الحقول الأخرى، مثل: الحقول العلميّة والبحثيّة والطّبيّة والهندسيّة والرّياضيّة والتّطبيقيّة والفلكيّة وغيرها؛ فهذا شأن آخر لسنا في صدده الآن.
أمّا الجوائز العربيّة الإبداعيّة بالتّحديد فقد توزّعتْ على قطاعاتٍ مختلفةٍ من حيثُ الموضوع والشّكل والاستمراريّة والمبالغ الماليّة الموقوفة عليها والامتيازاتِ المرافقةِ لها؛ بعضُها استطاعَ أن يحافظَ على استمراريّته الدّوريّة، والآخرُ تعثّرَ بسببٍ أو لآخر، وبعضُها توقّف للأبد معلناً موته بعد حياة قصيرة غيرِ مؤثّرة.
كما أنّ الكثير من الجوائزَ قد لعبت الأدوارَ ذاتَها عبر اهتمامها بقطاعات الفنون الأدبيّة نفِسِها، مع اختلاف الشّروط وأزمان التّقديم لها، مع ملاحظة أنّ الكثير من الجوائز هي صور عن أخرى؛ أيّ ما هي إلّا تقليد لها لسببٍ أو لأخر، كما أنّ كثيراً منها يوسّع موضوعاتِه وحقولَه دون سبب مقنع لذك، كما أنّ الآخر هو صور عن جوائز عالميّة معروفة، أو امتدادٌ لها، أو بالتّحالف معها، مع وجود قلّة من الجوائز التي تصمّمُ على أن تكوّنَ لها بصمتَها الخاصّةَ، وأن تقفَ نفسها عند جنس إبداعيّ بعينه اهتماماً به وتشجيعاً له معرفة التّبرير لذلكَ كلِّه، ولا تقبل بأن تنقل خبط عشواء من طقوس الجوائز الأخرى، وطرائقِها، مثل تفشّي طقس إعلان القوائم الطّويلة والقصيرة للجوائز، وغيرِها من الطّقوس الأخرى التي لا مبرّر لها سوى تقليدِ جائزة لأخرى على غير هدىً.
أيّاً كانتْ مصائرُ هذه الجوائزِ فهي قدّ ظلّتْ وجهةً مغريةً للمبدعين العرب الذين يتنافسون على التّقديم لهذه الجوائز رغبةً في قيمها الماليّة والمعنويّة دون استثناء في هذا الشّأن أكان المبدعون مكرسّين أم مبتدئين أم هواةٍ، بل إنّ بعض الجوائز التي تكشف عن أرقام المشاركين فيها تصدمنا بأعداد المبدعين العرب الذين يشكلون جيوشاً ألفيّة لا نعرف منهم إلّا القليلَ، ولا يصمدُ منهم في المشهد الإبداعيّ إلّا الأقلّ، في حين يكتنف الظّلُ الآخرين لسببٍ أو لآخر.
ابتداءً: من الإنصاف القول إنّ الجوائزَ العربيّةَ قدْ خلقت حراكاً إيجابيّاً في المشهد العربيّ بشكل أو بآخر، لا سيما في فترات إعلانها وفعاليّاتها، كما وفّرتْ فرصاً للعملِ في إداراتِ هذه الجوائز، وفي القطاعات المساندة لها في الإعلام والتّصميم والطّباعة والنّشر والتّوزيع والتّرويج الإلكترونيّ والورقيّ والمرئيّ والسّمعيّ، فضلاً عن توفير مساحات كبيرة للمتنفّعين والمطبّلين والمزّمرين الذين يتناحرون على فتات موائد الجوائز لا سيما ذات الميزانيّاتِ العملاقة والصّرفِ الباذخ، إلى جانبِ الكثيرِ من الفعاليّاتِ الثّقافيّةِ المهمّةِ التي تُعقدُ على هامشِ تلكَ الجوائزِ وبتغطية ماليّة منها، مثل: المؤتمرات والنّدوات والملتقيات وحلقات التّدارس والبحث ومختبرات التّطبيق ودورات التّكوين والعروض المسرحيّة وحفلات التّوقيع والمناظرات الأدبيّة والرّحلات التّعارفية والاستكشافيّة والمجاورات الأدبيّة والرّحلات والمشاريع الإبداعيّة والتّغطيات الإعلاميّة المتخصّصة وتحويل بعض الأعمال الأدبيّة إلى أعمال دراميّة أو وثائقيّة أو مسرحيّة أو كرتونيّة، وغيرِها من مشاريع الإبداع، والانتقال في متون الفنون المتجاورة، إلى جانب إغناء المكتبة العربيّة برصيد عملاقٍ وموصولٍّ من الإصداراتِ الإبداعيّةِ العربيّةِ التي تأخذُ الجوائزُ على عاتقها أن تصدرها في طبعات أنيقة جميلة تُوّزع بالمجّان -في كثير من الأحوال- لصالح القراءةِ والثّقافةِ والإبداعِ.
خلاصة ُالقول: لا يمكن لنا –بأيّ حال من الأحوال- أن ننكرُ أنّ الجوائزَ العربيّةَ الإبداعيّةَ قد ساهمتْ في الدّعم الماليّ والمعنويّ للمبدعين الفائزين بها، كما شجّعت الكثيرون على أن يكتبوا مشاريعهم الإبداعيّة بغيةَ المشاركةِ في الجوائز وطمعاً في المردود الماليّ والمعنويّ منها، وإنْ أدّى ذلك إلى أن يتضخّم المشهد الإبداعيّ العربيّ عدداً على حساب النّوع، كما قامتْ بعض الجوائز بجريمة تقديم أقلام متهاوية لا علاقة لها بالموهبة والإبداع عبر تفويزها لها بجوائز أثارت تساؤلات كبرى حول كيفيّة انتقاء أصحابها للفوز، إلّا أنّ الطبيعة هي مَنْ تكفّلتْ بالتّكفير عن هذه الجرائم ضمن ناموسها الصّارم، وهو الحياة للأفضل والأصلح؛ إذ سرعان ما تختفي هذه الأقلام المهموزة في إبداعها، ويختفي أصحابُها كذلك إلى الأبد، ولا نسمع لهم رِكْزاً بعد أن استولوا على القيم المالية للجوائز في وسط تساؤلاتٍ ولغط واتهاماتٍ لهم بعد هذا الفوز العجيب المنبتّ عن الاستحقاق والجدارة، والمنساق خلف العلاقات الخاصّة وتبادل المنافع وتحالفات الشّلل والعصابات، بل إنّ الأمرَ قد وصل إلى حدّ أنّنا قد نجد أنّ الفائزين في بعض الجوائز هم أصدقاء أو أقارب أو أزواج أو زوجات أو زملاء عمل لأعضاء لجان التّحكيم أو مالكي الجوائز ذاتِها لا سيما إنْ كانت الجوائزُ ملكاً لأفرادٍ من الأغنياء وأصحابِ النّفوذ والمتشاعرين والمصممّين على أن يكونوا أدباء رغم أنف الجميع.
أمّا الحديث عن الجوائز ذات الصّبغة الحكوميّة أو الرّسميّة لا سيما الجوائز المنبثقة عن وزارات الثّقافة العربيّة أو مؤسّساتها فهي حقلٌ أكبر للّغط واللّمز والهمز؛ إذ هي تفرز في الغالب فوزاً للمرضي عنهم حكوميّاً أو وزارتيّاً أو إعلاميّاً أو سياسيّاً أو شلليّاً، دون أن تلتفتْ –في الغالب- إلى الأقلام المبدعة والأسماء الوازنة، إلى حدٍّ جعلها لا تحظى بأيّ اهتمام أو وزن جماهيريّ أو إبداعيّ أو نقديّ، وجعل الكثيرَ منها موضوعاً للتّهكم والسّخرية، بل إنّ الأمرَ قد وصل ببعض الأسماء المبدعة الوازنة إلى حدّ أن ترفض تلك الجوائز، وأن تردّها على القائمين عليها هازئةً بها وبمغازلة أصحابِها لهم.
لقد وصل التّهافت إلى حدّ أن نجد بعض تلك الجوائز تفوّز أحداً من أعضاء لجان التّحكيم ذاتها أو أحداً من الموظفين العاملين في الجائزة عينِها في إشارةٍ واضحةٍ وفاضحةٍ إلى الفساد والتّردي والتّلاعب بمقدّرات الدّولة وشفافيّة الجوائز فيها.
فضلاً عن الجدل الذي يدور حول لجان التّحكيم وشروط الاشتراك التي تنطلق – في بعض الجوائز- من نوايا خبيثة لتُفصّلَ الجوائزَ على مقاس كتّاب بأعينهم، ليفوزا بها في نهايةِ الأمرِ بعد رحلةٍ من التّمثيل والتّهريج؛ إذ إنّ شروطَها لا تنطبقُ إلّا عليهم لا سيما في الجوائز التي تغيّر محاورَها وموضوعاتِها وشروطَها من عام إلى آخر.
كذلك يصل الجهل بأبسط أعراف الكتابةِ الإبداعيّةِ في بعض الجوائز إلى حدّ أنّ كثيراً منها يشترطُ عدداً للكلمات في العمل المنافس على الجائزة وتحدّد موضوعها وفكرتها ومحورها؛ وهي بذلك تضرب الحائطَ بأبسط صفاتِ الإبداعِ وحدودهِ ومساحاتهِ التي لا يمكن تقيدَهَا بعددٍ كلمات أو موضوعٍ ما؛ فهذا الأمرُ من خصائص الخياطة وأعراف قصّ القماش وتبليط الأرضيّات، لا من خصائصِ الإبداعِ القائمةِ على الحريّةِ والانتقائيّةِ والذّاتيّة والخصوصيّةِ، فضلاً عن الإغداق بالجوائز على المرضي عنهم لسبب أو لآخر، وحرمانِ أقلامٍ مبدعةٍ من الفوز لأنّ أصحابَها يملكون مواقفَ ورؤىً غيرَ قابلةٍ للمساومةِ والمفاوضةِ عليها، أو أنّهم لا يجيدون التّطبيل والتّزمير والانحناء حدّ تقوّس الظّهر!
كذلك نرى الكثيرَ من الجوائز تتناوب على استقطابِ الأشخاصَ ذاتَهم في لجان التّحكيم؛ كأنّ اللهَ عز ّوجلّ قد خلقَ أولئكَ المحكّمين لهذه المهمّة في الأرض، وخصّهم بمعارف عليا لأجلها، وضنّ بذلكَ على غيرهم من البشر المبدعين والمتخصّصين والأكاديميين؛ الأمر الذي وصلَ بمشهديّة الجوائز العربيّة إلى حدّ التّهريجِ والتَبكيتِ والابتذالِ في كثير من الأحوال مهما بذلتْ تلك الجوائز من جهود لترقيع ثقوبِ سمعتها السّيئة التي استعصتْ على الرّقع ببهرجةِ احتفالاتِ واستقطابِ إعلامٍ تطبيليّ واحتضانِ أقلامِ مادحة في كلّ حال.
الأمرُ يطول في حديثنا هذا، ولن أزعمَ أنّني أشير إلى نقاطٍ أُدركها دون غيري؛ فالموضوع مطروقٌ بحديثٍ طويلٍ ومتجدّدٍ منّي ومن غيري، وسيظّل كذلك ما دام هناك فائزون وغير فائزين، ومتنفّعون وغير متنفّعين، وراضون وغير راضين، لكن ذلك كلُّه لن يغير من سحر الجوائز، ومن حلاوة تلبية ندائها، كما لن يغيّر من جماليّات الفوز بها، ولن يقلّل من قيمة هذا الفوز لمن يستحقّونه، ولن يوقف المبدعين عن اللّحاق بركب تلك الجوائز التي وطّدتْ مقولةً خطيرةً للأسف، وهي أنّ الفوز أحياناً هو محضُ حظٍّ لا أكثر ولا أقلّ، أو خبطُ عشواء، على الرّغم من أنّها قد فوّزتْ –في كثير من الأحيان- أسماءً مبدعةً تستحقّ الفوز بجدارة، كما اكتشفتْ أسماءً موهوبةً بشهادةِ الجميع، وفتحت الأبوابَ لها في دنيا الإبداعَ، ولعبتْ أدواراً مهمّة في دعم مَنْ يستحقّ الدّعم من الأقلام الجميلة المبدعة.