معضلة “الجهل” في أسواق النفط
بقلم: أنس بن فيصل الحجي
هناك كتب ومقالات ومحاضرات تشكك في احتياطيات "أرامكو" السعودية
النشرة الدولية –
هل تعلم أنه لو رميت عملة معدنية في الهواء وتركتها تسقط على الأرض لمعرفة أسعار النفط غداً أو في الأسبوع المقبل، فإن توقعك لن يختلف عن متوسط نتائج المحللين في أسواق النفط! هذه حقيقة! فوكالة مثل “بلومبيرغ” تجمع توقعات المحللين يومياً، ونتائج توقعاتهم تقترب من 50 في المئة إلى 50 في المئة دائماً؟
وهل تعلم أن عدد المحللين الذين تصح توقعاتهم قليل جداً، وأن النماذج الرياضية المستخدمة وبرامج الحواسيب المتقدمة لم تستطع حتى الآن التنبؤ بأسعار النفط بشكل مرضٍ؟
مرة ذهبت لمقابلة لوظيفة “أستاذ كرسي” في إحدى الجامعات الأميركية، وكان الجدول يتضمن لقاء عميدين، عميد كلية الهندسة وعلوم الأرض، وعميد كلية إدارة الأعمال. وكنت مندهشاً من ذلك لأنه ليس من المعتاد أن أقابل عميدين في كليتين مختلفتين تماماً. ولكن بعد مقابلتي عميد كلية الهندسة، فهمت أن هناك خلافاً كبيرة بين الكليّتين على أموال كرسي الأستاذية، ولسبب ما، لا يريد عميد كلية الهندسة توظيفي. إلا أن الكلام الذي قاله ما زال يدوي في أذني حتى اليوم:
“أنتم الخبراء تظنون أنكم خبراء. أنا لست خبيراً في النفط، ولكن أقوم بثلاث – أربع مقابلات تلفزيونية أسبوعياً أتكلم فيها عن النفط. كل ما علي هو أن أقرأ الجريدة قبل المقابلة، ثم أكرر ما قرأته في الجريدة، هووواااا… أنا خبير مثلي مثل غيري”. طبعاً لم أردّ عليه، ولم أحصل على الوظيفة، وكان توفيقاً من الله لأن الخلاف بينهم كان على المال، وليس على من يشغل هذه الوظيفة بامتياز.
في عام 1999 كنت رئيساً للجنة تتسلم البحوث لتقييمها قبل انعقاد مؤتمر دولي كبير. كانت أسعار النفط منخفضة جداً وقتها. وجاءتنا ورقة من رئيس لمعهد أوروبي مشهور يجيب فيه على سؤال: لماذا ستظل أسعار النفط منخفضة. البحث كان ضعيفاً ولا يستحق المشاركة في المؤتمر، ولكن أفراد اللجنة رأوا أنه شخصية مهمة كونه رئيساً لمعهد مشهور، وتم قبول الورقة. وتم عقد المؤتمر في عام 2000 بعد أن تضاعفت أسعار النفط ثلاثة مرات.
وجاء دور رئيس المعهد للحديث عن ورقته التي تتحدث عن سبب بقاء أسعار النفط منخفضة، بعد أن تضاعفت أسعار النفط ثلاث مرات! صعد على المنصة وقال بوقاحة: غيّرت عنوان البحث إلى “لماذا ستبقى أسعار النفط مرتفعة”! وتحدث وكأن شيئاً لم يكن!
المشكلة أن أمثال هذا العميد ورئيس المركز كثر، ووسائل الإعلام لا تفرّق بين “الخبير” و”المعلّق”. الخبير “صانع” للخبر، المعلق “قارئ” للخبر. الخبير لا يقول رأيه، ولكن يتكلم نيابة عن النتائج والأرقام، المعلق يقول رأيه بأريحية شديدة، وهو رأي لا يدعمه شيء!
غالباً ما تتفق نتائج الخبراء، ولكن دخول كثيرين من المعلّقين على الخط، يظهر الكثير من التعارض والتناقض، ونتائج 50-50 المذكورة أعلاه. وأي خلاف بين الخبراء يكون خلافاً أصولياً بحتاً مبنياً على نظريات وتفسيرات منطقية، ولكن مختلفة النتائج والحقائق.
إلا أن أسباب اختلاف التوقعات كثيرة، منها عدم فهم العلاقة بين المتغيرات المختلفة، وإدخال البيانات الخاطئة، والتركيز على الجزئيات الصغيرة على حساب الصورة الكبيرة. إلا أن أكبر خطأ يمكن أن يرتكبه المتحدث أو الباحث هو عدم دراسة الأمر جيداً ومن كل جوانبه.
في جلسة من جلسات منتدى الاقتصاد العالمي في دافوس في سويسرا، تكلمت شخصية كبيرة عن مشكلات احتجاز الكربون، ونقله، وتسعيره. وكان في ما قاله إن هذا مستحيل، لهذا يجب إيقاف صناعة النفط لأنه ليست هناك حلول. قاطعه رئيس الشركة التي كنت أعمل بها وقال له: نحن في الولايات المتحدة نستخرج الكربون من باطن الأرض وننقله في أنابيب ونبيعه، وله سعر في السوق! فبهت الرجل! في اليوم التالي نقلت وسائل الإعلام ما قالته الشخصية الشهيرة، وتجاهلت ما قاله رئيسي في العمل. تصوروا السياسات والقرارات التي يمكن تبنيها بناء على جهل هذه الشخصية الكبيرة!
هناك كتب ومقالات ومحاضرات تشكك في احتياطيات “أرامكو” السعودية. قامت شخصية معروفة في الأوساط الأكاديمية بعرض ورقة في أحد المؤتمرات يتحدث فيها عن ذروة إنتاج النفط. وكان من ضمن الرسوم التي عرضها احتياطيات “أرامكو” النفطية التي لم تتغير سنوات عدة، وقال شارحاً إن ثبات الاحتياطيات مع الاستمرار بالإنتاج يدل إلى “التلاعب” من جهة، ويدل إلى بلوغ ذروة الإنتاج من جهة أخرى. بعد أن انتهى من عرضه، قلت له أمام الحضور: إن “أرامكو” لديها سياسة وهي تعويض الاحتياطيات التي أنتجتها في السنة السابقة، ثم تتوقف عن الاستثمار في زيادة الاحتياطيات تجنباً لهدر رأس المال. ومن ثم فإن هذا ليس دليلاً على أي شيء مما ذكر!
انتشرت بين السياسيين وكثيرين من حماة البيئة فكرة أن بناء المزيد من مزارع الرياح والطاقة الشمسية ستنهي عصر النفط وستوقف اعتماد الولايات المتحدة على دول الشرق الأوسط غير المستقرة سياسياً. المشكلة أن طاقة الرياح والطاقة الشمسية تستخدم في توليد الكهرباء، ونادراً ما تستخدم النفط في توليد الكهرباء في الولايات المتحدة وأوروبا! المشكلة الأخرى أن أغلب واردات الولايات المتحدة من كندا وأميركا الجنوبية، واعتمادها على دول الشرق الأوسط بسيط جداً. وحالياً نرى الحرب في غزة، وليس هناك نفط لا في الأراضي المحتلة ولا في غزة، ومع هذا طالب البعض بالتركيز على الطاقة المتجددة لتفادي الاعتماد على نفط الشرق الأوسط!
ومن القصص الطريفة عن الجهل قيام مجموعة من حماية البيئة التي تريد التخلص من النفط بعرقلة السير في أحد الطرق السريعة بالقرب من لندن في بريطانيا، وتم إيقاف صهريج، ثم صعدوا عليه وقاموا بلصق أيديهم عليه بمادة لاصقة قوية. الصهريج مكتوب عليه “زيت” فظنوا أنه نفط، ليكتشفواً لاحقاً أنه “زيت طبخ!”.
ومنها أيضاً، أثناء الغزو الأميركي للعراق، كانت هناك لافتة متدلية من شرفة إحدى الشقق في الإسكان الجامعي في جامعة ولاية نيومكسيكو الأميركية: نحن ندعم جنودنا في إيران!
السؤال هنا، من هي الفئة التي تستغل هذا الجهل في تعزيز عدائها للنفط؟