مفاجأة “نصر الله” وخطابه البائس
بقلم: د.سالم الكتبي
النشرة الدولية –
رغم حالة الترقب التي انتابت الكثير من الأوساط السياسية والمراقبين قبل خطاب زعيم “حزب الله” اللبناني، الذي القاه عصر الجمعة، وحدد موعده قبلها بنحو أسبوع، وكأننا بصدد دعاية لموعد العرض الأول لفيلم من الدرجة الثالثة، فإن الخطاب الذي بدأ فاتراً ومملاً ووصل إلى نهاية تشبه كثيراً النهايات الباردة للأفلام “الهابطة”، لم ينطوي على جديد يذكر، عدا بعض العبارات العنجهية والشعارات الرنانة التي اعتاد من يتابع خطابات نصر الله على سماعها، وهو من يحرص دوماً على تكرارها بموازاة حرصه الشديد على نفي ميله للمزايدات والكلمات الخاوية الرنانة.
لا أدرى شخصياً ماذا كان يتوقع قادة حركة “حماس” الإرهابية وغيرهم من خطاب “نصر الله” وهل كانوا يتوقعون أن يعلن دخول الحرب وفتح الجبهة اللبنانية وتوسيع دائرة القتال؟ الحاصل فعلياً أنه التف في خطابه على هذه التوقعات بالخداع والمخاتلة مناوراً بأن ميلشياته الارهابية تشارك في الحرب بالفعل منذ الثامن أكتوبر الماضي، متجاهلاً أن الجميع هذه المرة يتابع بدقة مايحدث على جميع الساحات، وأن “حزبه” يتظاهر بمشاركته في الحرب منذ البداية، ويمسك العصا من المنتصف بانتظار مؤشرات على الأرض تساعده في اتخاذ قراره وبناء موقفه!
لا يهمني ـ كمراقب ـ من يشارك ومن لا يشارك في الصراع الدموي الدائر في غزة، ولكنني الفت الانتباه إلى مدى خداع أذرع إيران الإرهابية لبعضها البعض، وميلهم الدائم للمزايدة وكسب النقاط وادعاء القيام بأدوار بطولية وهمية ليس لها وجود سوى في مخيلة قادتهم، وقد سبق لـ حماس” نفسها أن خذلت الحزب في معارك سابقة مع إسرائيل، بدعوى أنها لا تريد أن تسرق انتصاره المزعوم!
أكثر ما يثير انتباهي في خطاب حسن نصر الله هو تبشيره ووعده لأنصاره ومؤيديه بصوت أقرب إلى الصراخ بقرب الاحتفال بانتصار “حماس”، وهو مايذكرني باحتفالات سابقة عديدة أقامتها هذه الفصائل والحركات سواء في الأراضي الفلسطينية أو “حزب الله” نفسه بدعوى تحقيق نصر لا وجود له سوى في خيالهم المريض، فنصر الله نفسه احتفل من قبل بانتصار لم يشعر به سواه، وسط أنقاض وخراب بيروت والجنوب اللبناني، و”حماس” احتفلت غير مرة بانتصارات عسكرية زائفة رغم الخسائر البشرية والمادية الفادحة التي تسببت فيها تصرفاتها غير المحسوبة ضد إسرائيل.
ماسبق يقودنا إلى مفهوم ومعايير النصر والخسارة لدى وكلاء إيران وما يعرف بمحور “المقاومة” المزعوم، الذي تسبب في نشر الدمار في اليمن وسوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية ويحتفل في كل مرة بنصر مزعوم، ويقيم الأفراح والليالي الملاح على جثث المدنيين العزل والأطفال والنساء تاركاً الحسرة والندم لأهالي هؤلاء الضحايا الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم يعيشون في كنف هذه التنظيمات والميلشيات الارهابية المجنونة.
أي انتصار هذا الذي يبشر به نصر الله في ظل هذا الدمار الهائل والخسائر البشرية غير المسبوقة في صفوف الفلسطينيين، جراء الهجوم الذي شنته حركة “حماس” الإرهابية ضد إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي، وأي مشاعر متبلدة تلك التي يختزنها مثل هذا الرجال ورفاقه وهم يهللون لنصر قادم ويتغاضون عن كل هذا الكم الهائل من الحزن والوجع العميق الذي بات يسكن كل شبر في غزة والأراضي الفلسطينية؟
نعم للأسف هذه هي معايير النصر والخسارة لدى هذه التنظيمات والميلشيات الارهابية، فمجرد بقاء قادتها وزعمائها وأسرهم قيد الحياة ونجاتهم من المعارك والقصف هي الانتصار بعينه، فضمان حياتهم هو النصر حتى لو دفع آلاف الأبرياء العزل من النساء والأطفال وكبار السن حياتهم ثمن لقرار أهوج وغبي ومغامرة آثمة، نعم هي أفكار مريضة ومجنونة، ولكنها تليق بأصحابها من زعماء الميلشيات الإرهابية الذين يقتاتون على دماء الشعوب.
ولذا فإنني أشعر بالشفقة على المحللين الذين يمضون وقتاً طويلاً في تفسير وتفكيك عبارات نصر الله وأمثاله، وهو نفسه لم يبذل من الجهد ما يكفي لبناء خطاب محكم يليق بالظروف الصعبة التي تعيشها المنطقة، وآثر الخداع والمناورة كعادته، وظل طيلة خطابه بين كر وفر، أو كما قال بنفسه “بصراحة وغموض”، في مشهد أراد من خلاله أن يضفي على كلامه هالة من الاهمية ولكن لسانه سبقه وحركات جسده فضحته بأنه لا يعرف للجدية ومعايشة آلام الأبرياء طريقاً.
زخر خطاب نصر الله بعبارات رنانة قابلة للتأويل والتفسير ولا تختلف في معظمها كثيراً عن عشرات الخطب السابقة له، فالرجل يجيد الشحن النفسي والمعنوي لأتباعه ومؤيديه، فهو زعيم حرب نفسيه بامتياز، ولكن أفعاله وقرارته تشهد له بالخداع والمخاتلة والرعونة والخيانة أحياناً، وقد استشعرت هذه المرة أن الصفة الأخيرة حاضرة بقوة في خطابه، فهناك اتفاق ما يبدو أن فصائل “المقاومة” لم تقم بدورها فيها وتركت “حماس” تواجه اسرائيل بمفردها، ومن يتذكر خطاب هنية ثاني يوم الأزمة وهو يعلن أن هناك جبهات ستفتح وأن الجغرافيا السياسية ستتغير في المنطقة، يشير إلى ثمة وعد لم يتحقق، وأن خطاب نصر الله بالأمس كان محاولة لايهام “حماس” وأتباعها بأن الحزب و”الحوثي” وبقية وكلاء إيران في العراق ينفذون ما تم الاتفاق عليه حتى لو غرقت صواريخ الحوثي في مياه البحر الأحمر.
أراد نصر الله في بعض مقاطع خطابه أن يقنع الجميع بجديته ففشل فشلاً ذريعاً، ليس فقط لأنه لم يعلن أي جديد، ولكن لأن خطابه ينطوي على أكاذيب يعرف القاصي والداني زيفها، حيث أراد التنصل من مسؤولية ميلشياته عن إشعال الصراع محاولاً القاء الاتهامات جزافاً على الدول العربية وكأنها هي مسؤولة عن خطاياهم واجرامهم، ثم قال زاعماً أن الهدف الأول الذي يعمل عليه هو وقف الحرب على قطاع غزة! وتناسى شعارات التحرير.
هذه المرة ليست ككل مرة، فليس من المتوقع أن تتاح الفرصة لقادة هذه الميلشيات والفصائل ترويج أكاذيب النصر مجدداً، فقد رأى العالم أجمع والشعوب العربية كافة حجم الدمار والخسائر البشرية والدماء التي سالت بسببهم، بما يجعل من مجرد ترديد كلمة النصر عار على من ينطق بها إن آجلاً أو عاجلاً. ولا يمكن ادعاء النصر في ظل هذه الكارثة التي تسببت فيها هذه التنظيمات الارهابية والحركات الميلشياوية، ومن يعتقد أن هذه تضحيات بشرية واجبة لنصرة القضية، فعليه أن يراجع نفسه وآدميته وانسانيته، فمشاهد الأطفال الضحايا ستلاحق هؤلاء المجرمين جميعاً في أحلامهم، والنصر لا يتحقق سوى باسترداد أرض أو تحقيق هدف سياسي/ استراتيجي، أو الحاق الهزيمة العسكرية جزئياً أو كلياً بالطرف الآخر، وكل هذا لم يحدث وما حدث يعرفه الجميع، ويعرف كذلك من شجع من على التورط في الجريمة التي راجح ضحيتها عشرات الآلاف ثم وقف مدعياً بأن جبهته “هي جبهة تضامن تتطور وفق تطور الأحداث”!