تاريخ “المنشورات الحربية” أخبار أقوى من الرصاص
البالون أحد أقدم وسائل استخدامها ولعبت دوراً في معارك حاسمة
النشرة الدولية –
اندبندنت عربية –
في السادس من أغسطس (آب) 1945، أسقط الطيارون الأميركيون منشورات فوق اليابان تحذر المواطنين من الدمار المقبل، وذلك قبل وقت قصير من إكمال طاقم إحدى المقاتلات مهمتهم لقصف هيروشيما. حينها حذرت المنشورات اليابانيين من أن حكومتهم تقودهم إلى الموت، وأن الولايات المتحدة لا ترغب في قتل المدنيين.
وجاء في المنشور الأميركي رقم 2101، “هذه رسالة من رئيس الولايات المتحدة، هاري ترومان، إلى شعب اليابان. الطريقة الوحيدة لتجنب التدمير الكامل لعائلتك ومنزلك واقتصادك، وأمتك هي أن تتوقف فوراً عن كل الأنشطة العسكرية والاستسلام دون قيد أو شرط، وإذا واصلتم مقاومتكم غير المجدية، فسوف نضطر إلى جلب الدمار غير الضروري للأمة. سيكون هذا الضرر أكبر بكثير من الذي تلقته ألمانيا”.
واحتوت تلك المنشورات على صورة لهاري ترومان، وامرأة يابانية تحمل طفلاً، وصورة أخرى لصيادين يابانيين في القوارب، وللمباني المقصوفة مع شرح يقول “أنقذ أمتك من الدمار” وصورة لطائرة “B-29” أثناء الطيران مع تسمية توضيحية تقول “فوق طوكيو”.
فيما احتوى المنشور رقم 2097 على صورة لرجل هزيل ومسطح مائي، ويقول “بعد مرور عام على قطع الإمدادات عن جزيرة معزولة في جنوب البحر، هذا الجندي والحطام العائم، يقول الحقيقة عن هذه الحرب”.
بينما تضمن المنشور رقم 2094 على صورة الرئيس ترومان وعديد من المعدات العسكرية على جانب واحد، ونص على ما يلي، “في رسالته إلى الشعب الياباني، قال رئيس الولايات المتحدة هاري ترومان إن مصطلح (الاستسلام غير المشروط) هو مصطلح عسكري صارم، نحن نطالب الجيش فقط بتسليم أسلحته، ولا ننوي استعباد أو إبادة شعب اليابان”.
تاريخ المنشورات الحربية
وفقاً للموسوعات العسكرية والأكاديمية، تصنف المنشورات الحربية ضمن الدعاية الترويجية، وشكل من أشكال الحرب النفسية، إذ تنثر المنشورات في الهواء، وتستخدم القوات العسكرية الطائرات لإسقاط المنشورات، في محاولة لتغيير سلوك المقاتلين وغير المقاتلين فوق الأراضي التي يسيطر عليها العدو، وذلك تزامناً مع الغارات الجوية في بعض الأحيان.
ويمكن للمهام الجوية الإنسانية أحياناً، بالتعاون مع المنشورات الدعائية، أن تقلب السكان ضد قيادتهم، أثناء إعدادهم لوصول المقاتلين الأعداء. وفي فترة الحرب العالمية الثانية، أصبحت الحرب النفسية سلاحاً مهماً متاحاً لجميع المقاتلين، وكان هدفها المزدوج هو بناء الجبهة الداخلية للمستخدم وقواته وحلفائه، وفي الوقت نفسه مهاجمة وتقويض وتدمير العدو.
ونشرت الحقائق وأنصاف الحقائق والأكاذيب والإشاعات عبر عديد من وسائل الإعلام المختلفة، وكانت هناك وسائل لنقل الكلمة المكتوبة والمنطوقة، واستخدمت المنشورات منذ القرن الـ19 تقريباً، وأحد الأمثلة المبكرة هو من الحرب الفرنسية البروسية، عندما أسقط بالون فرنسي قادم من المدينة في أكتوبر (تشرين الأول) 1870، وأثناء حصار باريس، إعلانات حكومية على قوات الاتحاد الألماني الشمالي.
آنذاك ذكرت تلك المنشورات باللغة الألمانية، “باريس تتحدى العدو. فرنسا كلها تتجمع. الموت للغزاة. أيها الحمقى، هل يجب أن نخنق بعضنا بعضاً دائماً من أجل متعة الملوك وفخرهم؟ المجد والفتح جريمتان. الهزيمة تجلب الكراهية والرغبة في الانتقام. حرب واحدة فقط عادلة ومقدسة، الاستقلال”. أيضاً استعملت المنشورات في الحرب الإيطالية -التركية (1911-1912).
الحرب العالمية الأولى
استخدمت المنشورات الجوية لأول مرة، وعلى نطاق واسع خلال الحرب العالمية الأولى من قبل جميع الأطراف، إذ أسقط البريطانيون حزماً من المنشورات على خنادق الجيش الألماني، تحتوي على بطاقات بريدية من أسرى الحرب، توضح بالتفصيل ظروفهم الإنسانية وإخطارات الاستسلام والدعاية العامة ضد القيصر فيلهلم الثاني، والجنرالات الألمان.
وبحلول نهاية الحرب، كان (M17b) وهو فرع من مديرية الاستخبارات العسكرية التابعة لمكتب الحرب البريطاني ومسؤول عن الاتصال الصحافي والدعاية، وزع ما يقرب من 26 مليون منشور.
وكما هو معلوم أن أجهزة الراديو كوسيلة اتصال جماهيري لم تكن موجودة، لذلك ركزت العمليات النفسية الأميركية، على إنتاج المنشورات الدعائية لإحباط الأعداء وكسر معنوياتهم واستسلامهم، بخاصة بعد أن تطورت أساليب توزيع تلك المنشورات البريطانية والفرنسية، وتحسينها باستعمال البالونات والطائرات كوسائل أساسية في التوزيع.
خلال أغسطس (آب) 1918، نظم الكاتب والشاعر والطيار المقاتل الإيطالي الشهير غابرييلي دانونزيو، الرحلة فوق فيينا، وهي عملية دعائية شهيرة خلال الحرب، إذ قاد تسع طائرات من طراز Ansaldo SVA في رحلة ذهاباً وإياباً بطول 1100 كيلومتر (700 ميل) إلى فيينا، وأسقط 50 ألف منشور دعائي على العاصمة النمسوية المجرية.
وقتها بدأ الألمان بإطلاق النار على الطيارين الذين يلقون المنشورات، مما دفع البريطانيين إلى تطوير طريقة بديلة لإيصال المنشورات، عندما اخترع المهندس الكهربائي والفيزيائي البريطاني، جون فليمنغ، منطاد المنشورات غير المأهولة وذلك عام 1917، واستخدم على نطاق واسع في الجزء الأخير من الحرب، وأنتج أكثر من 48 ألف وحدة.
وعام 1915، بدأ البريطانيون بإسقاط منشورات منتظمة من صحيفة ناطقة بالفرنسية على المدنيين في فرنسا وبلجيكا التي تحتلها ألمانيا، في عملية وقف خلفها قسم من جهاز الاستخبارات العسكرية البريطانية.
الحرب العالمية الثانية
في الحرب العالمية الثانية وزعت المنشورات جواً من قبل كل من قوات الحلفاء وقوات المحور، بدءاً بإسقاط منشورات سلاح الجو الملكي فوق ميناء كيل (Kiel) الألماني، في سبتمبر (أيلول) 1939.
وخلال الحرب الوهمية، كانت معظم عمليات سلاح الجو الملكي عبارة عن إسقاط المنشورات المحمولة جواً، إذ أرادت بريطانيا أن تكون ألمانيا النازية، أول دولة تبدأ القصف الاستراتيجي للمناطق المدنية، لتجنب ردع القوى المحايدة مثل الولايات المتحدة عن دعم الحلفاء.
واقترح بناء قنبلة خاصة لتوزيع المنشورات المحمولة جواً، من قبل ضباط القوات الجوية البريطانية خلال تلك الحرب. وكان نموذج “قنبلة المنشورات” الأكثر نجاحاً في الحرب هو “قنبلة مونرو”، التي اخترعها كابتن القوات الجوية الأميركية جيمس مونرو عام 1943، من مجموعة القصف 305 وطورت من حاويات ورقية مغلفة كانت تستخدم لنقل القنابل الحارقة (M-17).
ولجأ البريطانيون إلى تحسين استخدام بالونات الهيدروجين لحمل المنشورات فوق الخطوط الألمانية، وحملت بعض القنابل الطائرة V-1)) التي أطلقها الألمان على جنوب إنجلترا منشورات في أنبوب من الورق المقوى على ذيل الصاروخ، لكن وجد أن الحرب النفسية لم تكن فعالة عند توزيع منشورات الاستسلام على العدو الذي يتمتع بروح معنوية عالية بين قواته، مع هذا استخدم الأعداء هذا التكتيك “لجعل الرجال يبدأون في التحدث مع بعضهم بعضاً حول وضعهم العسكري السيئ، ورغبتهم في البقاء على قيد الحياة من أجل عائلاتهم، ومدى معقولية الاستسلام المشرف، وغالباً ما دفع ذلك بالرجال إلى الفرار.
ووفقاً لنويل مونكس الذي كان مراسلاً لصحيفة “ديلي ميل” اللندنية، حصل عديد من الجنود الألمان على تصاريح استسلام أميركية أسقطت على رغم أن ذلك يعاقب عليه بالإعدام، موضحاً أن 75 في المئة من الشعب الألماني الذين حصلوا على تصريح استسلام من الولايات المتحدة، كانوا استسلموا في الواقع.
ولخص في ذلك الوقت، الطبيب النفسي الاسكتلندي جيمس إيه سي براون، تجربة الحرب العالمية الثانية بملاحظة أن “الدعاية تكون ناجحة فقط عندما يتم توجيهها إلى أولئك الذين هم على استعداد للاستماع واستيعاب المعلومات، والتصرف بناءً عليها إذا أمكن، وهذا يحدث فقط عندما يكون الجانب الآخر في حالة معنوية منخفضة ويخسر الحملة بالفعل”.
المنشورات بالأرقام
وبدأ استعمال المنشور بالانخفاض من بعد الحربين الأولى والثانية، على رغم أن استعماله كان بمثابة “سلاح” فعال، وجاء ذلك نتيجة لتقدم تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية والتلفزيون والراديو.
ببساطة أسقط ستة مليارات منشور في أوروبا الغربية، وأسقطت القوات الجوية للجيش الأميركي 40 مليون منشور على اليابان في عام 1945، خلال الحرب العالمية الثانية، واستخدم مليار منشور خلال الحرب الكورية (1950-1953)، بينما استخدم 31 مليون فقط في حرب العراق.
واستخدمت المنشورات في فيتنام وأفغانستان، سواء خلال الغزوات السوفياتية أو غزوات “الناتو ” الأخيرة، وحرب الخليج. وأسقطت قوات التحالف منشورات تشجع قوات الجيش العراقي على عدم القتال خلال حرب الخليج الأولى، مما أسهم في استسلام 87 ألف جندي عراقي في عام 1991.
خلال تطبيق منطقة حظر الطيران التابعة لحلف شمال الأطلسي فوق ليبيا عام 2011، استخدمت القوات الجوية الملكية الكندية والقوات الجوية الأميركية طائرات من طراز “C-130J Hercules” و”CP-140″ “Aurora” لبث إشارات لا سلكية وإسقاط منشورات فوق المناطق التي يسيطر عليها الزعيم الليبي السابق معمر القذافي.
وطلبت الرسائل في الغالب من قوات القذافي العودة إلى عائلاتهم ومنازلهم حفاظاً على سلامتهم، لكنها تضمنت أيضاً الرسالة الآتية، “إن قوات نظام القذافي تنتهك قرار الأمم المتحدة رقم 1973”.
ودعت بعض الرسائل القوات إلى وقف الأعمال العدائية وعدم إلحاق الأذى بمواطنيهم، بينما تضمنت رسائل أخرى بثها حلف شمال الأطلسي، أصواتاً نسائية تطلب من قوات القذافي “التوقف عن قتل الأطفال”، كما استخدمت المنشورات في الحرب السورية لردع مجندي “داعش” المحتملين من الانضمام عام 2015.
وتلقي إسرائيل المنشورات في حربها على غزة، منها ما تطلب به من السكان أن يقدموا معلومات عن المخطوفين الذين تحتجزهم “حماس”، أو الطلب من سكان شمال القطاع بإخلائه والتوجه جنوباً “من أجل أمنكم وسلامتكم”، أو إخلاء المستشفيات. وجاء في أحد المنشورات “إن كنتم تريدون مستقبلاً أفضل لكم ولأولادكم، افعلوا الخير وأرسلوا لنا معلومات ثابتة ومفيدة تخص المخطوفين في منطقتكم”.
الهدف من المنشورات
هناك ست وظائف مختلفة للمنشورات التي استخدمت على نطاق واسع خلال القرن الماضي، بدءاً من تحذير مقاتلي العدو وغير المقاتلين من أن منطقتهم سيتم استهدافها، وهذا له غرض مزدوج يتمثل في تقليل الأضرار الجانبية وتشجيع مقاتلي العدو وغير المقاتلين، الذين قد يشاركون في الإنتاج في زمن الحرب، على التخلي عن واجباتهم، مما يقلل من الفعالية العسكرية للهدف.
كما تستهدف حث العدو على الاستسلام، والشرح للهاربين المحتملين كيفية الاستسلام، كما يمكن تقديم المكافآت لتشجيع الأفراد على تقديم المساعدة، أو لتشجيع الانشقاق، ونشر المعلومات المضللة أو مكافحتها، وخفض معنويات العدو من خلال الدعاية، وتقديم المشورة لمستمعي الراديو حول ترددات/أوقات البث الدعائي وطرق التحايل على التشويش على الراديو.
أخيراً استخدمت المنشورات لتقديم المساعدة الإنسانية، عبر إبلاغ الأشخاص بمكان العثور على الطعام الذي يسقط من الجو، وكيفية فتحه واستهلاكه، وموعد وصوله.