خلط الأوراق في القضية الفلسطينية
بقلم: د. سالم الكتبي
النشرة الدولية –
ما يحدث أمام أعين الجميع الآن من تدخل الميلشيات والأذرع الإرهابية الموالية لإيران في الصراع الدائر بغزة، ليس سوى كارثة استراتيجية حقيقية تحيق بالقضية، التي تنزع هويتها أمام الجميع وتختلط فيها الأوراق وتتحول إلى ملف صراعي بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة وما يعرف بمحور المقاومة بقيادة إيران من جهة ثانية.
لا أدري لماذا لا تستفيق جميع الأطراف على هذا الخطر الداهم، وكيف تترك القضية الفلسطينية التي تاجر بها الكثيرون منذ عقود وسنوات طويلة مضت، لتنزلق إلى ساحة جديدة من ساحات المتاجرة والزيف والخداع، فما يحدث في حقيقة الأمر من ضجيج ميلشياوي إرهابي ليس سوى حلقة جديدة من حلقات المتاجرة والتوظيف للقضية الفلسطينية لتحقيق مكاسب لأطراف إقليمية على جثث القضية والشعب الفلسطيني.
من يستغرب كلامي عليه أن يسأل نفسه بوضوح: هل تدرك ميلشيا “الحوثي” الإرهابية بالفعل أن صواريخها التي تطلقها من اليمن ستوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة؟ وهل تؤمن الميلشيات الإرهابية والمتطرفة التي تطلق صواريخها على القوات الأمريكية في العراق وسوريا أن هذا الفعل سينهي الصراع في غزة؟ وهل التدخلات المحسوبة بدقة من جانب “حزب الله” اللبناني تستهدف بالفعل تخفيف الضغوط العسكرية على رفاقهم من حركة “حماس” الإرهابية؟!
بلاشك أنه لا أحد من هؤلاء يريد أن ينتصر للشعب والقضية الفلسطينية، ولكن الكل يبحث عن دور في إطار خدمة أجندة إيرانية محددة تحرك هؤلاء على مسرح العرائس الشرق أوسطي الذي تجاوز الخيال فيه حدود المنطق والمعقول، والكل أيضاً ينفذ الدور المرسوم له في طهران من دون أن يفكر في عواقبه أن ينتظر نتائج له، وليس من الحكمة أن يتصور أحد أن هذه الميلشيات الإرهابية والمتخلفة تمتلك وعياً استراتيجياً يؤهلها للحكم على عواقب أفعالها، فهم مجرد أمراء حرب ومرتزقة يقتاتون على أصوات الرصاص وجثث الضحايا، وليس من بينهم من يمتلك مشروعاً لدولة أو خارطة طريق لمستقبل شعب.
المؤكد، برأيي، أن دخول الأطراف الإرهابية الموالية لإيران على خط الصراع الدائر بغزة هو أكبر خطأ استراتيجي يرتكب بحق القضية الفلسطينية، والصمت على هذه التدخلات عربياً يعمق الأزمة ويقلص للغاية هامش الحركة الدبلوماسي المتاح أمام الأطراف العربية للبحث عن تسوية سياسية عادلة ونهائية للقضية الفلسطينية، وليس أقل من إعلان موقف رسمي عربي واضح ومشترك وصارم يرفض هذه التدخلات التي تسىء للقضية ولا تحقق سوى “ضجة وبروباغندا” إعلامية لها أثر كارثي على الفلسطينيين أنفسهم قبل أي طرف آخر.
قد يقول قائل إن هذه التدخلات ستجبر إسرائيل وحلفائها الغربيين على الإسراع بتطبيق حل الدولتين، ولكن هذه الفرضية مغلوطة في ظل الشواهد الراهنة، بل العكس هو الصحيح تماماً، لأن خلط الأوراق يوفر فرصة لتشويه القضية وإعادة تقديمها للرأي العام العالمي باعتبارها صراعاً دينياً أو صراع ضد الإرهاب بين “العالم الحر” كما يقال و”تنظيمات الارهاب” بقيادة إيران، بحيث تندثر تدريجياً معالم القضية ولاسيما في ظل حساسية الشعوب للتهديد الإرهابي.
الحشود العسكرية الأميركية الضخمة لم تفلح حتى الآن في وقف تدخلات الأذرع الإرهابية الإيرانية التي قال حسن نصر الله أنه “أعد لها العدة”، في قول يعكس حجم الاستهانة بالدمار والخراب ودماء المدنيين العزل، لأن زعيم “حزب الله” الإرهابي يدرك أنه سيختفي في الانفاق فور إطلاق أول صاروخ أمريكي، تاركاً المدنيين يواجهون مصيراً محتوماً رسم بأيدي هؤلاء المخربين.
هذه الميلشيات الإرهابية لا تخضع لقواعد الصراع التقليدية ولا يمكن بالتبعية ردعها بإجراءات عسكرية تقليدية، وهو مايفسر عدم اهتمامها بالحشد العسكري الأمريكي الذي جُلب إلى محيط الشرق الأوسط بهدف ردع وترهيب الأذرع الإرهابية الإيرانية والحيلولة دون دخولها على خط الصراع الدائر في غزة.
ولكن على الجميع ان يستوعب الحقيقة القائلة بأن توسيع دائرة الصراع في الشرق الأوسط ينهي تماماً القضية الفلسطينية ويحولها إلى ملف من ملفات الصراع الإقليمية العديدة، بعيداً عن مسألة الحقوق المشروعة وبقية ثوابت وملفات القضية، والخطر الأكبر الآن هو في تنامي القناعة الإيرانية المعلنة بحتمية توسيع نطاق الحرب، وهو ما تردد غير مرة على لسان مسؤولين إيرانيين كبار، منهم وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، والمسألة هنا تتجاوز فكرة التهديد لأن ما يحدث على أرض الواقع من تدخلات الأذرع الميلشياوية الإرهابية يعكس ميلاً لاستدراج الولايات المتحدة وإسرائيل لخوض صراع إقليمي واسع النطاق.
بلاشك أنه لا يمكن للدول العربية أن تقف مكتوفة الأيدي صامتة وهي تتابع هذه التطورات المتسارعة، وينبغي أن تعلن موقفاً واضحاً وصريحاً ومباشراً برفض لعبة خلط الأوراق والتدخلات الإقليمية في صراع غزة، لأن النيران لو اشتعلت إقليمياً فلم يقتصر لهيبها على حدود هذه الأذرع الإرهابية، التي ستختفي من على الأرض وتترك للشعوب دفع تكلفة هذه التصرفات غير المسؤولة، بحيث يصبح الجميع في مواجهة مآسٍ جديدة إضافية في اليمن والعراق ولبنان وسوريا.
لمن لا يرى عواقب وتداعيات خلط الأوراق الحاصل حالياً، نقول عليناً ألا نراهن كثيراً على عدم قدرة إدارة الرئيس بايدن على اتخاذ قرار خوض صراع عسكري سواء في في ظل حساسية عامل التوقيت، أو بسبب عدم قناعة أركان هذه الإدارة من الأساس بأهمية الردع العسكري الفاعل وقت اللزوم، فالمسلك الذي تمضي فيه الميلشيات الإرهابية الموالية لإيران ينطوي على مجازفات غير محسوبة، لأن هذه الأذرع المغامرة والمتطرفة تدفع باتجاه إشعال صراع إقليمي واسع يخدم أهدافها وينهي اتفاقات السلام ويضمن للنظام الإيراني الخروج من أزماته الداخلية بل والعيش سنوات طويلة في ظل شعارات ومزايدات لا نهاية لها.
وبالتالي فمن الوارد بنسبة ليست قليلة أن تضطر الولايات المتحدة لخوض صراع عسكري تحت ضغط الواقع الذي يتسارع ويتدهور بشكل ملحوظ، حيث بات من الممكن القول أن قرار التدخل الأميركي بات مرهونًا بالسلوك الميلشياوي الارهابي، وهل يظل ضمن الحدود التي يمكن تجاوزها أميركياً، أو يعبر الخطوط الحمر ويضع البيت الأبيض أمام خيار وحيد لا حياد عنه.