حكاية قرية في وادي التيم
النشرة الدولية – كتب د. دريد سريوي –
ليست خلوات الكفير، وليست خلوات المتن، ولا خلوات البياضة.
هي الخلوات.
قرية قديمة قِدم الحضارة والتاريخ والحياة. تروي حكاياتها آثار فينيقية ويونانية ورومانية وعربية، وملامح أجيال كان لها في وادي التيم ممراً ومستقراً عبر قرون أفلت، ما محاها زمن وما بددها نسيان، تتمثل؛ ببرج عزرون، وبرج الخلالي، وهياكل أبنية عين طورا، ومقام النبي شئت، وخرائب شعيث، وبقايا قصر رمونة، وخرائب خلوة نرش، ومحلة القبرين، ومعالم ونقوش آلهة الفينيقيين بباب الخان، وأقبية رومانية بُني فوقها عدّة منازل ما زالت عامرة حتى اليوم.
سكن الكنعانيون والفينيقيون مناطق سوريا، ومنها وادي التيم، وحين قاد الاسكندر المقدوني حربه ضد الفرس وانتصر عليهم في معركة إسوس، تابع زحفه جنوباً باتجاه الساحل الفينيقي، ولاحق الايطوريين في ذاك الوادي
وبعد موت الاسكندر، تقاسم قادة جيشه الأربعة الكبار، تركة سيدهم. فحصل بطليموس على سوريا الجنوبية بما فيها فينيقيا.
لكن السلوقيين عادوا وطردوا البطالسة، ووحّدوا البلاد السورية، وجعلوا عاصمتها انطاكيا بدلاً من دمشق. واستمر حكم اليونانيين لوادي التيم حتى مجيء الرومان في العام ٦٤ قبل الميلاد، فقضوا على السلوقيين والايطوريين، وامتد حكمهم حتى سنة ٦٣٨ ميلادي، تاريخ بدء الهجرات العربية إلى هذه البلاد.
يندمج تاريخ الخلوات مع الحاضر بروعة وأناقة وجمال. فيمكن العثور حولها على معالم تاريخية قديمة، ووسط المباني الحجرية والأزقة الضيقة وغيرها. وفي هذه المعالم تتجسد حضارة شعوب وتراث عريق.
على مقربة من جبل الشيخ أو جبل “حرمون” أعلى القمم في تلك المنطقة، ذاك الجبل المتميز بجماله الخلاب، وروعة المناظر الطبيعية من حوله، خاصة في فصل الشتاء حين تتكلل قممه بالثلج وتلبس سفوحه رداءها الابيض، فيبدو منظراً أخاذآً يسحر الألباب.
وإلى جانب حرمون
تلال وهضاب ووديان تزيّن المنظر العام للقرية، وتقدّم فرصاً لممارسة الرياضات والنشاطات في الهواء الطلق، وتعزز شعوراً عاماً بالراحة والهدوء والسكينة. إنها مكان تلتقي فيه تلك الأشياء الجميلة المختلفة وتتشابك لتخلق تجربة لا تنسى.
تلك القرية جميلة بشوارعها الضيقة، ودروبها الطويلة،
وساحاتها الهادئة
وأزقتها الظليلة
ورغم ما أصاب تلك المعالم الأثرية من تهميش وتهشيم، بقي فيها بعض ملامح قديمة تلفت الأنظار.
وفي كل مكان أثري حولها، هناك تاريخ طويل يروي قصة الإنسانية وتقاليدها وعاداتها، هذه الأرض التي سكنتها أجيال وأجيال.
جللوا أرضها…
ونحتوا حجرها…
وغرسوا شجرها…
وسقوا زرعها …
من حبات قلوبهم وعيونهم دموعاً ودماء.
وعند كل زاوية ومنعطف ودرب وزاروب وزقاق، ترى الحجارة القديمة تتحدث عن ذاك التاريخ البعيد، وروح البساطة والسلام.
وفي حقولها تتمايل سنابل القمح، عند هبوب الرياح، مصدرة أصواتاً خفيفة تبعث في النفوس هدوءًا وسكينة،
وتفوح في ربوعها روائح النباتات والازهار المختلفة الأشكال والأنواع،
وتتعدّد في كرومها أصناف من الأشجار؛ كالتين، والزيتون، والعنب، والتفاح… إضافة إلى غابات كثيفة من الصنوبر والسنديان…
وعلى بيادرها تُجمع أغمار الحصاد وغلال الكروم.
وتُسْمع في كل ناحية أصوت الرعاة، أناشيداً يرددها صدى الأودية البعيدة الأغوار. كوادي المغارة، ووادي الزمار.
وصوت أجراس النواقيس عند التلال والهضاب، تأخذ السامع إلى الزمن الماضي السحيق.
سكانها طيبون، طيب العبق والريحان.
رحبون كالمدى البعيد.
مترابطون برباط الألفة والمحبة والوئام، مجموعة مثالية من الشيوخ والرجال والنساء والشباب والشابات، يعيشون بروح المحبة والألفة والسلام، يتبادلون الأحاديث ويتقاسمون الأفراح والأحزان في كل مناسبة، ويتسابقون للترحيب بزوار القرية، وتقديم المساعدة لأي كان.
هي الخلوات. ولكثرة ما فيها من سحر الوجود والآثار التاريخية القديمة.
اختلفوا، واختلطوا على تسميتها وتبعيتها…
لكنها فقط الخلوات.
ولا ينفصل تاريخها وجمالها عن ما جاورها من قرى وبلدات في وادي التيم كالكفير، وعين عطا، وميمس، وعين قنيا، وعين جرفا، وشويا، وحاصبيا وغيرها …
وتلك روائع من لبنان