غزة… تمديد الهدنة يسابق استئناف الحرب
بقلم: طوني فرنسيس
مأزق المتحاربين في القطاع وحوله يدفع الأطراف المعنية إلى البحث عن الحلول النهائية
النشرة الدولية –
السؤال الكبير المطروح الآن هو ماذا بعد هدنة الأيام الأربعة التي تنتهي اليوم؟ السؤال مطروح على أطراف الصراع كافة وخيارات الأجوبة ليست كثيرة، لكن الاستمرار في منطق الحرب إسرائيلياً لن يقود إلا إلى طريق مسدود، واستمرار “حماس” في التفرد بقرار غزة لا يبدو متاحاً أو مقبولاً.
لدى انتهاء الهدنة ستستعمل “حماس”، مرة ثانية، ورقة الأسرى لفرض هدنة جديدة. الوسطاء ليسوا بعيدين من هذا الاحتمال. وفد قطري زار إسرائيل لهذه الغاية، وإيران قالت إنها تتوسط بين “حماس” وإسرائيل! وأميركا رحبت بالهدنة واحتمالات تمديدها من دون الوصول إلى بحثٍ في قرار لوقف النار.
“حماس” تريد الهدنة لترتيب صفوفها بين شمال غزة المدمر والمهجّر وجنوب القطاع الذي يستوعب النازحين ولا يمكنه الاستجابة لمأساتهم، وتحتاج التبادل لتكريس صورتها كمقاومة تطلق الأسرى الفلسطينيين من السجون.
من جهتها، إسرائيل لا يمكنها الهروب من ضغط عائلات مخطوفيها، وهي وضعت إعادتهم إلى بيوتهم في رأس أولوياتها عندما بدأت حربها التدميرية ضد القطاع. لكن للحكومة الإسرائيلية المتطرفة والمتهمة بالتقصير في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، وبالانقلاب على النظام قبله، وفساد رئيسها قبل هذا وذاك، حسابات أخرى، على رأسها “اجتثاث حماس”. وهي لم تخف، جماعةً وأفراداً، رغبتها بتهجير فلسطينيي القطاع إلى سيناء، كفصلٍ من فصول تهجير كافة الفلسطينيين، بمن فيهم فلسطينيو الضفة الغربية.
لتحقيق هذا “البرنامج” دمّرت القوات الإسرائيلية مباني شمال القطاع، وأرسلت مئات الآلاف من أبنائه إلى الجنوب بعد قتل ما يزيد على 15 ألفاً منهم، وهددتهم بالقنبلة الذرية في “شطحة” معبرة لأحد وزرائها.
تنتهي الهدنة خلال ساعات فماذا سيحصل عندها؟ بحسب مختلف التقديرات تتعدد الاحتمالات، وأولها التوصل إلى تمديد لأيام التهدئة تحت عنوان استكمال عملية التبادل. في هذه الحالة، واستناداً إلى العدد الذي تم تحريره في الصفقة الأولى، ستحتاج “حماس” إلى هدنة متواصلة من 16 يوماً لاستكمال إطلاق الإسرائيليين المحتجزين لديها، إذا اعتبرنا أن عددهم في حدود الـ200 شخص، هذا إذا سرت شروط الصفقة الأولى أوتوماتيكياً على بقية المطروح تبادلهم، على أن يترافق ذلك مع تنفيذ بقية الالتزامات الإسرائيلية بشأن السماح بإدخال المساعدات والوقود والامتناع عن الطلعات الجوية ووقف إطلاق النار.
لكن السير في هذا الطريق ليس مضموناً، إذ لا تبشر المواقف الإسرائيلية بالقبول بهذا المنحى من المعالجة، هي التي تضع القضاء على “حماس” في نفس مرتبة استعادة مواطنيها. حاجة إسرائيل إلى استئناف المعارك لكسر صورة “حماس الصامدة والمفاوضة”، ستبدو ضرورية استناداً إلى تصريحات رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وفريقه الحربي. وهذا ما يقود إلى احتمال تجديد القصف والقتال في مناطق جنوب غزة، ما يؤدي إلى استئناف الهجمات الإسرائيلية مرة أخرى، ما يخلق أخطاراً إضافية أمام جميع المنخرطين فيها، ويزيد في معاناة السكان الفلسطينيين.
لقد انقاد أطراف “محور المقاومة” الذي تنظمه إيران إلى الالتزام الفوري بهدنة إسرائيل- “حماس”. ولم تكن إيران بعيدة من وضع حليفها في لبنان مسبقاً في أجواء التهدئة. وأوقف “حزب الله” رشقاته اليومية من لبنان على المواقع الإسرائيلية المقابلة، منذ اللحظات الأولى للهدنة، ما أتاح لأبناء الجنوب اللبناني النازحين عن قراهم، فرصة العودة الحذرة لتفقد منازلهم المهجورة والمتضررة وقطاف موسم الزيتون الذي تشتهر به مناطقهم، مثلما أتاحت الهدنة لأبناء غزة محاولة التوجه شمالاً لتفقد ما تبقى من منازلهم وأرزاقهم.
احتمال استئناف الهجوم الإسرائيلي بعد انتهاء الأيام الأربعة قد لا يعني إبقاء اشتباكات الحدود اللبنانية في مستواها السابق، وسيصعب على إيران التي تبنت “التهدئة” سعياً إلى وقف إطلاق النار، أن تبقى مكتوفة الأيدي مكتفية بإطلاق يد أذرعتها، في حرب ضد مقاومة في غزة قلدها المرشد سلفاً وسام الانتصار. في المنطق الإسرائيلي السائد، لا مفر من استئناف المعركة. وتل أبيب تدعمها الولايات المتحدة الأميركية، ترفض وقفاً لإطلاق النار، لكن الذهاب إلى هذا الخيار سيبقى محكوماً بحسابات إطلاق الأسرى.
يرى ألون بنكاس في صحيفة “هآرتس” أن “استئناف الحرب بصورة مصطنعة بعد 96 ساعة (من بداية الهدنة) سيكون من ناحية حزب الله وإيران، الدليل الواضح على أن الولايات المتحدة هي شريكة كاملة في التصفية العسكرية والسياسية الشاملة لحماس، ما سيدفع إلى التصعيد… والمعضلة الأساسية أمام أميركا أن عليها الاختيار بين استمرار القتال، المطلوب من أجل إبعاد حماس عن أي قدرة سلطوية، وبين زيادة احتمال التصعيد الذي يمكن أن يورطها بشكل مباشر”.
بحسب تجربة شهر ونصف من الحرب، لم يتبين أن أميركا ذاهبة إلى تورط مباشر. هي اكتفت بتحذيرات مباشرة لإيران بعدم توسيع النزاع، فحرصت طهران على نفي أي تدخل لها وعملت في المقابل على تحريك فصائلها في العراق ولبنان واليمن وزجهم في المعركة “التضامنية” مع “حماس”. وفي حال استئناف المعارك في غزة لن تواجه صعوبة في تكرار الفعل عينه، فيستأنف “حزب الله” إشغال الجبهة الشمالية، والحوثي إطلاق المقذوفات من اليمن، وفصائل “الحشد” العراقي التعرض لمواقع الجيش الأميركي في العراق وسوريا.
وبات واضحاً أنه من دون تدخل إيراني مباشر ستكتفي الولايات المتحدة بما تقوم به حالياً من توجيه ضربات جوابية على تحرشات إيرانيي العراق، وتصدٍ للصواريخ الحوثية، لكن انفجاراً كبيراً على الجبهة مع لبنان قد يقود إسرائيل إلى تنفيذ تهديداتها بتحويل بيروت إلى غزة ثانية، وعندها لن تعود صورة الوضع الراهن قائمة: دمار كامل في القطاع يرجح أن يثير صدامات كبرى في الضفة وحرب “فاصلة” مع “حزب الله”، ستكون امتحاناً أخيراً لإيران، لكنها ستؤدي بالتأكيد إلى خراب لبنان مرّة أخرى. في هذه الحالة أيضاً، يرجح كثيرون أن تبقى إيران في منأى عن الضرر المباشر، وتواصل سيرها في برنامجها النووي وتدعيم ركائز نظامها، فهذه هي أولوياتها “الخالصة” عندما تحين ساعة الخيارات النهائية.
ليس ضرورياً أو محتماً أن تتحرك الأمور على هذا النحو. إلا أن ذلك يبدو مرتبطاً أكثر من أي وقت مضى بموقف الإدارة الأميركية. لقد أعاد “طوفان” السابع من أكتوبر الولايات المتحدة بقوة إلى المنطقة، لتكتشف كم غضّت النظر طويلاً عن استمرار الاحتلال الإسرائيلي من دون أي سعي لإيجاد حل يستند إلى الشرعية الدولية والمبادرة العربية، ولتكتشف أيضاً أن حرصها على الاتفاق النووي مع إيران أعماها عن رؤية خطورة التوسع الإيراني في المنطقة، وتمكّن طهران من الإمساك بمفاصل الحكم في دول عربية أساسية وفي قسم فاعل من المنظمات الفلسطينية، وذهابها إلى تشكيل “محور مقاومة” له قيادته وغرفة عملياته المشتركة، يضع هدفاً له طرد أميركا من “غرب آسيا” والاستحواذ على القضية الفلسطينية بوصفها علامة الاستقطاب الأولى للشعوب العربية ومختلف أوساط الرأي العام العالمي.
لم تكن علاقات أميركا بحلفائها العرب والإقليميين على ما يرام قبل السابع من أكتوبر، فيما كانت إسرائيل وإيران تحتلان المشهد. الآن عادت الولايات المتحدة لتكتشف أهمية إرساء علاقاتها العربية على أسس سياسية أخلاقية متينة، حددها الموقف العربي الذي عبرت عنه السعودية خصوصاً منذ زيارة وزير الخارجية أنطوني بلينكن إلى المملكة، وموقف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وملك الأردن عبدالله الثاني، اللذين رفضا الحرب وتهجير الفلسطينيين… وتبنته قمة الرياض لاحقاً.
بدأت النظرة الأميركية تأخذ الموقف العربي في الاعتبار وتحسب له حسابه. وزاد منسوب حديث المسؤولين الأميركيين عن ضرورة الحل السياسي وإقامة الدولة الفلسطينية.
يوم الجمعة الماضي، وفي أول تعليق له على الهدنة، كرر الرئيس جو بايدن الحاجة إلى تسوية سياسية، وأكد أنه حان وقت العمل على “تجديد حل الدولتين لإرساء السلام بين إسرائيل والفلسطينيين”.
وأعطى بايدن إشارة أولى ضد استئناف المعارك عندما قال: “أعتقد أن ثمة فرصاً حقيقية لتمديد الهدنة… فالمضي على درب الإرهاب والعنف والقتل والحرب سيعني منح حماس ما تريده”. مع ذلك كرر أن القضاء على “حماس” هو “هدف مشروع” و”سيكون مهمة صعبة”.
ترك بايدن الباب موارباً أمام استئناف المعارك، مع تفضيل صريح لتمديد الهدنة. وفي الحالتين، بات ثابتاً أن الهدنة الممددة أو الحرب المستأنفة لا معنى أو قيمة لهما ما لم يرتبطا بمشروع تسوية تاريخية يطرح المخارج العملية من صراع امتد قرناً من الحروب والأزمات والدمار.
لقد حان الوقت إلى فرض حلٍ يستعيد بموجبه الفلسطينيون حقوقهم في وطنهم ودولتهم المستقلة، وهذا جوهر الموقف العربي اليوم.