تحديات “أوبك+” في إدارة السوق
بقلم: أنس بن فيصل الحجي
النشرة الدولية –
أسواق النفط قد تبقى على ما هي عليه الآن لعقود وهذا يتطلب إعادة هيكلة لـ”أوبك+” ومن ثم لـ”أوبك”، وإعادة نظر كل عضو في “أوبك” في سياسات إنتاج النفط وتصديره بتضمينه ضمن سياسات الأمن القومي والسياسات الخارجية، وربطه بمصادر الطاقة الأخرى، خصوصاً الغاز لعدم تكرار الماضي كما حصل في العقود الماضية.
بداية، لنكن صريحين، مشكلات أوبك الحالية هي نفسها عبر السنين، ووجود نظام حصص إنتاجية من دون أنظمة للتخزين وأنظمة متابعة صارمة وعقوبات للمخالفين يعني أن هذه المشكلات ستظل تتكرر لعقود مقبلة، مما أسهم في انتشار إشاعة أخيراً مفادها بأن السعودية ستقوم بزيادة الإنتاج وخفض أسعار النفط لمعاقبة أعضاء “أوبك+” الذين لا يلتزمون خفض الإنتاج.
مرض “النفاق البيئي أو النفاق المناخي”
يعاني الغرب مرض “النفاق البيئي” أو “النفاق المناخي”، وهذا المرض لا علاج له، ولكن آثاره على العالم كبيرة، فهناك أدلة كثيرة على أنه عندما تتعارض سياسات المناخ مع السياسات الاقتصادية أو الخارجية، فإنه تتم التضحية بالأهداف المناخية لتحقيق أهداف اقتصادية أو سياسية.
وبما أن أثر السياسات المناخية لن يظهر إلا بعد زمن طويل بينما الانتخابات دائماً على الأبواب، يقدم سياسيو الغرب خطابات معسولة عن التغير المناخي، ولكنهم يتبنون سياسات اقتصادية وسياسية تسهم في فوزهم بالانتخابات، وشهدنا تراجعات بالجملة عن سياسات التغير المناخي في أوروبا والولايات المتحدة وكندا لتفادي غضب الناخبين.
قد يقول بعضهم هذه بلادهم وهذا شأنهم وهم أحرار بما يقومون به، ولكن هؤلاء لا يدركون أن آثار هذه السياسات عالمية وتمس الوضع الداخلي في كل البلاد المصدرة للنفط والغاز، بما في ذلك دول الخليج. فالتراجع عن سياسات التغير المناخي أو فشل بعض السياسات الخضراء يعني بالضرورة زيادة الطلب على الفحم والنفط والغاز الطبيعي.
المشكلة أن الاستثمارات في هذه القطاعات غير كافية أصلاً، ثم تأتي هذه الزيادة المفاجئة في الطلب التي لم يحسب حسابها أحد. عندها سترتفع أسعار النفط والغاز بصورة كبيرة، وسيتم لوم البلاد المنتجة ومهاجمتها من قبل السياسيين الغربيين ووسائل الإعلام.
ولا شك في أن السيارات الكهربائية تؤدي إلى خفض الطلب على البنزين والديزل نسبياً، وقد ينخفض الطلب على البنزين بصورة مستمرة في بعض البلاد الأوروبية، بخاصة الصغيرة منها، ولكن الطلب العالمي ككل على النفط لن ينخفض، ولكن معدلات نموه ستكون أقل مما سبق، ومن المهم هنا التأكيد على فكرتين مهمتين. الأولى أن الطلب على السيارات الكهربائية في الأعوام الماضية كان من فئات معينة لها مواقفها السياسية والبيئية المعروفة، بغض النظر عن السعر والجدوى الاقتصادية للسيارة. هذه الفئة تم إشباع رغباتها، وهي فئة قليلة في المجتمع. الآن جاء دور المشتري “الاقتصادي” الذي سينظر إلى كلف السيارة مقابل منافعها.
بعضهم استفاد أو سيستفيد من الإعانات الحكومية الكبيرة، ولكن الكلف مهمة لبقية السكان، وهذا أسهم في تباطؤ نمو مبيعات السيارات الكهربائية في الغرب.
أما الثانية، فهو الأمر الذي ذكر في مقالات سابقة، الارتفاع الكبير في كلف التأمين على السيارات الكهربائية. هذا الارتفاع يكاد يعوض عن الإعانات الحكومية، مما يعني أن كلفة السيارات الكهربائية ما زالت مرتفعة بالنسبة إلى غالبية فئات المجتمع.
باختصار، احتمال أن يبلغ الطلب على السيارات الكهربائية ذروته كبير، ومن ثم فإن الانخفاض الكبير في الطلب على النفط الذي تتوقعه وكالة الطاقة الدولية وغيرها لن يتحقق.
من ناحية نظرية، ستؤدي زيادة الطلب المفاجئة إلى نقص في الإمدادات وارتفاع كبير في الأسعار، ولكن مرض “النفاق البيئي” يعني أيضاً الاستمرار بإنتاج الفحم والنفط والغاز الطبيعي! ودليل ذلك الزيادات الكبيرة في إنتاج الولايات المتحدة وكندا والنرويج وتشجيع الحكومة البريطانية شركات النفط على زيادة استثماراتها في بحر الشمال، وزيادة استثمارات الشركات الغربية وإنتاجها في البرازيل وغيانا، وتجاهل إدارة الرئيس بايدن للعقوبات على فنزويلا والسماح للشركات بزيادة إنتاج صادراتها النفطية.
هذه التطورات المذكورة أعلاه تعني أن أسواق النفط ستبقى، بصورة عامة، على ما هي عليه الآن، ومن ثم فإن تحديات “أوبك+” في إدارة السوق ستبقى كما هي، ولكن، هل سيتكرر الماضي باستمرار، أم الأفضل إعادة هيكلة المنظمة كي تستطيع إدارة السوق بصورة أكثر كفاءة من قبل؟ هذه الهيكلة تتضمن التركيز على الصادرات بدلاً من الإنتاج وتطوير أنظمة متابعة للصادرات وعقوبات للمخالفين وبناء مخزون نفط خاص بالمنظمة وتحويل النفط الخام الفائض من الدول التي ليست لديها قدرة تكريرية إلى الدول التي لديها فائض في القدرة التكريرية.
مشكلة روسيا
على رغم قيام روسيا بخفض إنتاجها تماشياً مع خفض “أوبك+” والخفض الطوعي الذي اتفقت عليه مع السعودية، إلا أنها تتلاعب في البيانات، بخاصة أن جزءاً لا بأس به من صادراتها لا يمكن متابعته بسبب إغلاق السفن لأجهزة التتبع.
روسيا اللاعب الأكبر في مجموعة “أوبك+” ومن خارج منظمة “أوبك”، ولكن مصلحتها تختلف تماماً عن مصلحة السعودية، لهذا يعبر المسؤولون الروس عن رغبتهم في عدم خفض الإنتاج، أو بخفوضات أقل لأنهم لا يرغبون في أسعار نفط مرتفعة. لماذا؟
لأن بوتين أدرك منذ ضمه لشبه جزيرة القرم في 2014 وفرض العقوبات الغربية على روسيا وبناء على معلومات استخباراتية أن الولايات المتحدة تهدف إلى بناء محطات غاز مسال بغية إحلال الغاز الأميركي محل الروسي في أوروبا.
وبما أن معظم النمو في إنتاج الغاز الأميركي يأتي من حقول النفط الصخري كغاز مصاحب، أدركت القيادة الروسية أن ارتفاع أسعار النفط سيجلب كميات ضخمة من الغاز المصاحب الرخيص الذي سيمكن الولايات المتحدة من بناء محطات الغاز المسال وتصديره إلى أوروبا ليحل محل الغاز الروسي. لهذا وقفت روسيا في وجه الخفوضات الكبيرة لـ”أوبك+” وكانت تعارض ارتفاع أسعار النفط فوق 65 دولاراً للبرميل.
ورأت روسيا فرصة سانحة في مارس (آذار) 2020 لتدمير قطاع النفط الصخري الأميركي لمنع ما حصل سابقاً من تصدير الغاز لأوروبا، ولكن ما تريده روسيا لا يتماشى مع مصالح غالبية الدول المنتجة للنفط.
الموقف الروسي في هذا المجال لم يتغير، إلا أن الحرب تتطلب أموالاً ضخمة، مما يجعل روسيا تقبل الخفوضات والأسعار المرتفعة حالياً، ولكن مع انتهاء الحرب فإن الخيار الروسي واضح. روسيا تريد خفض إنتاج النفط الأميركي حتى ينخفض إنتاج الغاز لتستعيد جزءاً من سوقها في أوروبا.
ما علاقة القصة الروسية هنا بموضوع المقالة؟ هناك دول عدة ضمن “أوبك+” تركز على صادرات الغاز المسال، وهناك تناقض بين السياسات النفطية والغازية. لهذا فإنه من ضمن التغييرات الهيكلية التي يجب أن تقوم بها “أوبك+”، إنشاء معادلة جديدة لا تقتصر على النفط الخام فقط، وتتضمن السوائل الغازية والغاز بحيث يتم تعظيم المنفعة للجميع وتتواءم المصالح مع بعضها، وإلا فإن هذه الخلافات ستستمر لعقود وتستمر معها الذبذبة المرتفعة في أسواق النفط.