لبنان في سباق بين التسوية والحرب الكبرى
بقلم: طوني فرنسيس
نتنياهو قد يلجأ إلى حرب شاملة ضد "حزب الله" ضماناً لمستقبله واستمراره في السلطة
النشرة الدولية –
الانفجار الكبير على جبهة لبنان – إسرائيل يبدو مؤجلاً إلى حين، وما يمنعه سببان أساسيان معروفان، الأول انهماك إسرائيل في حرب غزة، والثاني إرادة الولايات المتحدة الأميركية في منع تحول حرب غزة إلى حرب إقليمية. وإلى هذين السببين هناك مبرر ثالث، إيراني المصدر، يجري الحديث عنه همساً وعلناً، ويفسره إسهام “حزب الله” المحدود في المعركة. فحوى الأمر أن إيران لا تريد للحزب أن يدخل بكامل قواه في الحرب الدائرة، فهي أسسته وموّلته وسلحته ليكون جاهزاً للدفاع عن نظام طهران حين يتعرض لهجوم إسرائيلي أو أميركي، وليس للموت دفاعاً عن غزة. كتب عن ذلك الصحافي مايكل يونغ (معهد كارنيجي) قائلاً إن الإيرانيين “استخدموا الحزب لردع إسرائيل عن الاعتداء على لبنان، لكن بدرجة أهم، لمنع إسرائيل أو أميركا من شن هجمات على إيران التي تُعَدّ منبع القوة والنفوذ الإقليميين”.
في ضوء التصريحات الإيرانية، خصوصاً تلك التي يدلي بها وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان عن نفاد صبر “جبهة المقاومة”، وهو يقصد هنا وكلاء إيران في المنطقة، يصبح السؤال مشروعاً حول مدى استعداد إيران لدفع “حزب الله” إلى معركة شاملة انطلاقاً من لبنان بهدف منع ضرب حركة “حماس”، مع ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من دمار وضحايا في لبنان، إضافة إلى إضعاف الحزب نفسه وعزله في بيئته وبين الطوائف الأخرى.
التساؤلات حول المدى الذي يمكن أن يذهب إليه أنصار إيران في لبنان، تواصلت طوال شهرين من دخولهم في حرب المواقع المحدودة التي نجحت في تحقيق أمر وحيد وهو إجبار إسرائيل على إخلاء المستوطنات القريبة من الحدود اللبنانية من سكانها ونقلهم إلى أماكن أكثر أمناً. قبل ذلك، وضع “حزب الله” خطاً أحمر مهدداً بالتصعيد قبل بدء إسرائيل هجومها البري في غزة. حصل الهجوم ودُمر القطاع على رؤوس سكانه ولم يتغير شيء، الآن يكتفي الحزب بالقول إنه سيواصل ما يقوم به حتى وقف الحرب على غزة.
في المحصلة لا يبدو أن الإيرانيين يدفعون في هذه المرحلة نحو هجوم واسع كذلك الذي هدد به حسن نصرالله متوعداً باحتلال الجليل، لكن الصورة تبدو مختلفة من الجهة الإسرائيلية.
فإسرائيل بدعم من الولايات المتحدة تركز حربها في القطاع وجزئياً في الضفة. والدعم الأميركي يوفر لها غير السلاح والحماية السياسية، ضبطاً لردود الفعل المحتملة، خصوصاً المتوقعة من إيران. وفي آخر المواقف الأميركية على لسان مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، تفضيل لتسوية بالسياسة مع “حزب الله” بدلاً من الحرب.
هذه التسوية تبلورت ملامحها في اتصالات أميركية مع الإسرائيليين والحكومة اللبنانية، وتولت فرنسا عرضها بما في ذلك مع “حزب الله”، وهي تنطلق من العودة لتنفيذ القرار 1701 الذي اتخذه مجلس الأمن الدولي لوضع حد لحرب صيف 2006 بين الحزب الموالي لإيران وإسرائيل في جنوب لبنان. ونص ذلك القرار في ما نص عليه على جعل منطقة جنوب نهر الليطاني وحتى الحدود الجنوبية، خالية من السلاح والمسلحين وخاضعة للجيش اللبناني وولاية قوات الطوارئ الدولية. في السياق، عرض مبعوث الرئيس جو بايدن لشؤون الطاقة، آموس هوكشتاين الذي أشرف على التوصل إلى الاتفاق البحري اللبناني – الإسرائيلي، استكمال مهمته براً، ليشمل الاتفاق – التسوية تخلي إسرائيل عن أراضٍ تحتلها في لبنان مقابل إنهاء سيطرة الحزب على المناطق الحدودية.
قابلت إسرائيل الأفكار المطروحة بالتأكيد على انسحاب “حزب الله” إلى مسافة خمسة إلى سبعة كيلومترات من الحدود، لتلتقي بذلك مع الدعوة إلى تنفيذ القرار 1701. فما يهم إسرائيل الآن، ورئيس حكومتها خصوصاً، هو ضمان عودة المستوطنين لأماكن إقامتهم على الحدود، فيما النقاش الإسرائيلي الداخلي لم يتوقف حول كيفية التصرف تجاه “وكيل إيران” في الشمال.
منذ بداية حرب غزة، لم يغِب الحديث عن حتمية المعركة مع “حزب الله”. والمسؤولون الإسرائيليون تناوبوا على توجيه التهديدات بهذا الخصوص، وفي تحليلات المعلقين والخبراء وردت كثيراً المقارنة بين الحزب و”حماس”. وجعل هؤلاء من فكرة غزو التنظيم الفلسطيني للمستوطنات في جوار غزة تطبيقاً عملياً لفكرة “حزب الله” عن اجتياح الجليل، وفي المكانين كان للأنفاق دور مهم، وسبق لإسرائيل أن اكتشفت أنفاقاً بين لبنان ومستوطناتها وقامت بتدميرها، وهي تعتقد بوجود أنفاق أخرى، مُعَدّة لعمليات هجومية يمكن أن تحصل في أي وقت.
يهيمن هذا الاعتقاد على العقل الجمعي الإسرائيلي، سياسياً وعسكرياً، ولم يكن ممكناً ضبطه وتقنينه لولا الضغط الأميركي الذي تجسد في اتصالات تحذيرية من وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن بنظيره الإسرائيلي يوآف غالانت، ولولا الانهماك الكلي في إسرائيل بمعركة غزة حيث تلتقي وجهتا النظر الأميركية والإسرائيلية.
مساعي التهدئة الحالية على الجبهة “اللبنانية” المستندة إلى تطبيق بنود لم تطبق في القرار 1701، يمكنها أن تقود إلى تجنيب لبنان حرباً مدمرة وتعفي “حزب الله” من دفع أثمان باهظة في عديده وعتاده وموقعه السياسي. لكن الوصول إلى تسوية ثمنه ابتعاد مقاتلي الحزب من الحدود، وهو ما لا يبدو متاحاً بحسب قادة التنظيم الذين يحرصون على القول بمتابعة حربهم الصغيرة اليومية حتى ضمان وقف النار في غزة ونجاة “حماس” من المصير الذي يريده أعداؤها لها.
هذا الموقف، بحد ذاته، هو شرارة للحرب الكبرى. فلا أحد يمكنه أن يبقي على الانضباط الراهن في عمليات القصف المحدود المتبادل. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، لا أحد يمكنه أن يضبط ردود فعل المسؤولين الإسرائيليين، خصوصاً تحت ضغط عشرات آلاف المستوطنين الخائفين من العودة لمستوطناتهم في الشمال.
هؤلاء إلى جانب مستوطني غلاف غزة، سيشكلون رافعة لرأي عام انتخابي يأخذه الساسة الإسرائيليون في الاعتبار. ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي تشن عليه حملات المعارضين ووجّه إليه الراعي الأكبر جو بايدن انتقادات مباشرة، هو أحد هؤلاء الساسة بل أبرزهم، ممن يجعلون احتفاظهم بمناصبهم أولوية قصوى.
“ليس بايدن ما يهمه (لنتنياهو)، ولا غزة أيضاً، ما يهمه هو مستقبله السياسي في اليوم التالي”، قال المحلل الإسرائيلي نحوم بارنيا عن رئيس الحكومة الإسرائيلية. ونتنياهو نفسه قال في رده على انتقادات بايدن، خلال جلسة للجنة الشؤون الخارجية في الكنيست إن “بن غوريون كان زعيماً عظيماً لكنه في النهاية استسلم لضغط أميركي. رئيس الوزراء الذي لا يمكنه أن يصمد أمام الضغط الأميركي، يجب ألّا يدخل إلى مكتب رئيس الوزراء!”.
في إسرائيل تكشف مواقف من هذا النوع عن أن الحسابات الانتخابية الداخلية تبقى عاملاً حاسماً في صناعة القرار السياسي. والسياسيون الإسرائيليون يعتمدون على الدعم الأميركي مهما كانت قراراتهم، خصوصاً إذا اتخذت تحت عنوان الدفاع عن الوجود، وهذا هو العنوان الثابت في نهج إسرائيل منذ قيامها.
قال هنري كيسنجر يوماً “ليست لإسرائيل سياسة خارجية، فقط لديها سياسة داخلية تتسرب خارجاً”، وهذا التقويم الذي يعود لأعوام يصح اليوم بقوة وكأنه كتب لمثل هذه الظروف. فعلى رأس الحكومة الإسرائيلية رجل جمع اليمين المتطرف في حرب شاملة ضد الفلسطينيين، وهو قد لا يتردد، توطيداً لسلطته وضماناً لمستقبله السياسي، في شن حرب ثانية ضد “حزب الله”، تنقل المناوشات الجارية إلى مستوى معركة حاسمة يدفع ثمنها لبنان واللبنانيون، مثلما دفع سكان غزة ثمن الرد على غزوة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.