شمعة إماراتيّة في ظلام غزّة

النشرة الدولية –

أشعلت دولة الإمارات العربيّة المتحدة شمعة في هذا الظلام الدامس، ظلام حرب غزّة. كان ذلك عبر الجهود التي بذلتها الدبلوماسية الإماراتية من أجل صدور قرار عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في شأن غزّة. صحيح أنّ القرار لم يتضمن دعوة إلى وقف القتال فوراً، لكن الصحيح أيضاً أنّه خطوة في طريق طويل من أجل الحؤول دون قطع المساعدات الإنسانيّة عن أهل القطاع الذين يعانون الأمرّين جراء الوحشية الإسرائيلية.

إنّها وحشيّة لم يكن ممكناً أن يكون هناك مجال لها لولا الهجوم الذي شنته “حماس” في السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي، وهو هجوم استهدف مستوطنات إسرائيليّة في منطقة تسمّى غلاف غزّة. لا يتناسب الردّ الإسرائيلي مع هجوم “حماس” الذي سمّته “طوفان الأقصى”. لكن هذا “الطوفان” سمح لإسرائيل ممثلة بحكومة بنيامين نتنياهو بالعمل من أجل تصفية القضيّة الفلسطينيّة. هذه مهمّة مستحيلة ستعجز عنها إسرائيل مهما طال الزمن، خصوصاً في ظلّ وجود بين سبعة وثمانية ملايين فلسطيني على أرض فلسطين، من البحر المتوسّط إلى نهر الأردن.

لن تنتهي حرب غزّة في هذه السنة التي تشرف على نهايتها. يبدو أنّها ستطول شهوراً عدّة في وقت لا وجود لأيّ مخارج سياسية من هذه الحرب، أقلّه في المدى المنظور. ليس قرار مجلس الأمن الذي رعته الإمارات وخاضت حرباً دبلوماسيّة من أجل صدوره، سوى خطوة في معركة طويلة تصبّ في مشروع سياسي لا بدّ من تحقيقه في نهاية المطاف. اسم هذا المشروع خيار الدولتين ولا وجود لاسم آخر له. هذا المشروع حاربه اليمين الإسرائيلي وحاربته “حماس” وحاربته إيران بشهادة وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان الذي قال، على هامش مؤتمر انعقد أخيراً في الدوحة، إن رفض خيار الدولتين يشكّل نقطة الالتقاء الوحيدة بين إيران وإسرائيل!

تكمن المأساة في أنّ إسرائيل لا تمتلك غير الحلّ العسكري لحرب تسببت بها “حماس” التي لم تمتلك، بدورها، في يوم من الأيّام أي أفق سياسي، باستثناء الصواريخ والشعارات الفضفاضة. ليس ما نشهده حالياً وما تمرّ فيه المنطقة غير نتيجة طبيعية لرهان اليمين الإسرائيلي على عامل الوقت لتكريس الاحتلال المستمرّ منذ منتصف عام 1967 للضفة الغربيّة والقدس الشرقيّة.

لم يستوعب هذا اليمين الإسرائيلي يوماً أنّه ليس في الإمكان تصفيّة القضيّة الفلسطينيّة بالاعتماد على الوقت… كما يظنّ بنيامين نتنياهو الذي يجسّد العقم السياسي الذي يعانيه اليمين الإسرائيلي. أكثر من ذلك، لم يستفد من الوقت سوى “حماس” التي عرفت كيف تعدّ نفسها لـ”طوفان الأقصى” الذي لا يمكن أن تقتصر انعكاساته على غزّة، بل ستكون لهذا الهجوم انعكاسات على المنطقة كلّها، بل حتّى على العالم.

ليست حرب غزّة سوى تعبير عن مأزقين. المأزق الإسرائيلي من جهة، والمأزق الذي يعانيه الإسلام السياسي في المنطقة من جهة أخرى، وذلك بغض النظر عمّا إذا كان هذا الإسلام سنّياً بقيادة الإخوان المسلمين أو شيعياً بقيادة “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران.

ستستمرّ حرب غزّة طويلاً، خصوصاً أن لدى إسرائيل هدفاً غير قابل للتحقيق يتمثل في إزالة الشعب الفلسطيني من الوجود انطلاقاً من غزّة التي يخشى تحولها إلى موقف كبير للسيارات مساحته نحو 365 كيلومتراً مربّعاً. ماذا ستفعل مصر التي تسعى إسرائيل إلى طرد فلسطينيي غزّة إلى أراضيها في هذه الحال؟

تحفر الدبلوماسيّة الإماراتيّة في الصخر في ظروف أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها في غاية التعقيد. من بين التعقيدات الموقف الذي تتخذه إدارة أميركيّة غير قادرة على بلورة سياسة شرق أوسطية واضحة، بدءاً برسم حدود معيّنة للتصعيد الإسرائيلي الذي يمثل جريمة في حق الإنسانيّة.

تقف إدارة بايدن عاجزة أمام التصعيد الإسرائيلي. واجهت دولة الإمارات والجهود التي بذلتها صعوبات كبيرة في تصديها لهذا العجز الأميركي الناجم عن رغبة في دعم إسرائيل شرط التزامها شروطاً معيّنة في ممارسة وحشيتها.

يزيد الوضع تعقيداً وجود طرفين خارجيين يعتبران نفسيهما منتصرين في حرب غزّة. هذان الطرفان هما إيران وروسيا. كانت حرب غزّة فرصة كي تظهر “الجمهوريّة الإسلاميّة” كمّية الأوراق التي تمتلكها في المنطقة، من البحر الأحمر إلى جنوب لبنان… ومن العراق، الذي استطاعت ترويضه تماماً إلى جنوب سوريا ومناطق أخرى في هذا البلد.

تثبت إيران يومياً أنّها استطاعت الردّ عبر “حماس” على إسرائيل التي كانت تفاخر بقدرتها على توجيه ضربات دقيقة في الداخل الإيراني. فإذا بصواريخ “حماس” تهدّد الدولة العبريّة، بما في ذلك تل أبيب ومطار اللد… وإذا بإسرائيل مضطرة لكشف نقاط ضعفها، بما في ذلك عدم استعدادها لخوض حرب طويلة. فوق ذلك كلّه، تبين مدى اضطرار الدولة العبرية إلى الاعتماد على الولايات المتحدة في مواجهة تخوضها مع فصيل فلسطيني كانت تعتمد عليه في تبرير رفضها أي تسوية سياسية.

تعتبر إيران نفسها منتصرة في حرب غزّة، كذلك يتصرّف الرئيس فلاديمير بوتين الذي لم يتردّد في استخدام الوسائل التي لجأت إليها إسرائيل في حملته العسكرية على أوكرانيا. أين الفارق بين إسرائيل وروسيا عندما يتعلّق الأمر بغزة وبأوكرانيا؟ أين الفارق بين إسرائيل من جهة وروسيا وإيران من جهة أخرى عندما يتعلّق الأمر بارتكابات النظام الأقلّوي في حقّ سوريا والسوريين من عام 2011  وحتّى يومنا هذا؟

وفّرت “الجمهوريّة الإسلاميّة” وروسيا الغطاء المطلوب للنظام السوري كي يرتكب جرائم في حق السوريين تفوق في سوئها ما ارتكبته إسرائيل في غزة. تكفي للتأكّد من ذلك مقارنة بين عدد السوريين الذين قتلهم النظام أو شردهم وما فعلته إسرائيل وما زالت تفعله في غزّة.

كانت الحاجة إلى إضاءة شمعة في ظلام غزّة. كانت تلك الشمعة التي أضاءتها دولة الإمارات ذات مغرى كبير في مجال خلق بعض الأمل في منطقة تحتاج إلى السياسة أكثر بكثير من جنون التطرّف بكلّ أنواعه…

زر الذهاب إلى الأعلى