حياة القرية
بقلم: كتب الدكتور دريد سريوي
النشرة الدولية –
للعيش في القرية جمال يشبه حكايات الكتب القديمة.
فكم تهادت ذاتي بين ربوعها، وفي منعرجات دروبها وحقولها.
هنا غرست شجراً، وهناك اقتلعت حجراً، وهنالك جررت ساقية ماء،
وبين هذه المنحدرات بنيت جداراً حجرياً، حتى لا تنجرف التربة عندما تتساقط الأمطار في فصل الشتاء.
ذاك السهل الفسيح أمامكم زرعته قمحاً، بذرت مع كل حبة قطرةً من دمي، وسقيته من دموعي قطراتَ حُبٍ وحنين.
انظروا إلى سنابله المتعالية وتأملوا تموجاتها مع النسمات، تتهادى كأمواج البحار، وتلاحق بعضها كأنغام السواقي.
وهذه الصنوبرات تتعانق أغصانها، رغم أنني باعدت فيما بينها ذات يوم، إلا أنها أبت عليَّ فتطاولت الواحدة إلى جانب الأخرى نحو السماء.
وهذه حقول الزيتون تتكئ على كتف بعضها في صفوف تبدو مستقيمة في جلول، أولها يحاكي آخرها. لكن بعضها زُرع بين الصخور، وفي أمكنة يصعب الوصول إليها.
منها منذ زمن اليونانيين والرومانيين وربما أقدم عهداً وتاريخاً.
هذا حقلي، وذاك حقل أخي، وذاك لجارنا فلان، وهذا لجارتنا فلانة ورثته عن والدها أو والدتها، وبعضهم يحاول انتزاع مُلكيتها له.
وعند تلك التلة أرضُ وقفٍ منذ زمن بعيد. قالوا أنها نُذرت عن روح أحد أبناء القرية.
هذه الأرض طينية، وتلك أرضٌ رملية، وهناك أرضٌ “شَحَار”، وفي تلك الناحية أرضُ “نقّار”.
هذه أميرية، وتلك مشاع، وهنالك أرض “بور” وسَبَات، ومن الممكن استصلاحها وزراعتها.
هذه السنة كانت مواسِمنا وفيرة وغلالنا كثيرة،
الحمد لله على فضله ونِعمه
عملنا وتعبنا واشتغلنا من الصباح حتى المساء، فحصلنا في نهاية الأمر.
كان إنتاجنا من الزيتون كذا ..
ومن الصنوبر كذا…ومن العنب والتين والتفاح وغيرها…كذا وكذا
إضافة إلى المزروعات الفصلية أو الموسمية.
وعليك أن تنتبه كل هذه المزروعات “بعلية” ومن دون مواد كيماوية.
هكذا هي مساحات الأرض. وهكذا يُحدِثك كل واحد من أبناء القرية عن أرضه.
فهي الأمل وهي الحب وهي الهدوء والسكينة.
وهي ضجيج الأيام وتعب السنين وكدح الليالي.
فتارةً تعيشها فرحاً، وتارة مندهشاً، وتارة بألمٍ وحرقةٍ وضياع.
وربما ساق الحظُ بعضهم إلى عالم آخر خلف البحار، فكانت غيبته عشرات الأعوام والسنين، ليعود متكئاً على عكازه، يقص ذكريات قريته ورحلته، على مسارح النظر وأشباح الليالي ومسامع الريح والنسيان، هائماً ما بين سكرة ويقظة.
نولد في القرية، وقلما نذهب بعيداً نحو المدن، أو بقاع الأرض الواسعة،
لأن الإنسان يأتلف ذاك النمط من العيش، فيستحسنه ويعتاده، ويُفني صباه وشبابه وكهولته وشيخوخته، إلى أن يأتي أجله ويرحل إلى عالم الأموات.
فيُكتب في سجل قريته العتيق هذه العبارات وُلِدَ… وكَبُر… تزوج…أنجب أطفالاً…نَقَّبَ الأرض، ماتَ وضُم إلى أجداده…