قطارات ومحطات
بقلم: سعد بن طفلة العجمي

"أغلقوا هذه المحطة، أوقفوا السفر السرمدي ودموع الوداع، ضعوا أوتاداً على سكة هذا القطار اللعين"

النشرة الدولية –

لماذا القطار؟ هو وسيلة نقل، ولكن لماذا يرتبط بالعمر بالأقوال والأمثال؟ لماذا لا نقول: ومضت سفينة العمر؟ أو طائرة أو سيارة أو دراجة العمر؟ ألأن قطار العمر مرتبط بالفيلم العربي الشهير “ومضى قطار العمر” الذي مثل به فريد شوقي ونورا وعماد حمدي وناهد شريف؟ ولماذا اختار المخرج أو الكاتب اسم القطار؟ لماذا قطار وليس حمار العمر؟ فالحمار وسيلة للنقل كذلك؟ بل إن الحمار أقدم وسيلة للنقل من القطار، فأول قطار للركاب كان بإنجلترا في عام 1825 أي قبل قرنين من الزمان، بينما عمر الحمار من عمر الإنسان على هذه الخليقة أو يزيد.

بمحطة القطار تسافر بك الأفكار قبل أن تركب القطار. محطة القطار تحكي حكايات وقصصاً وروايات، في هذه البقعة المحددة من المكان تجد الأفراح والأحزان. تقف أمامك صور العواطف والمشاعر، وتشاهد لقاء الأحبة ووداع المسافر. كم من صبية ذرفت دموعها على وداع الحبيب، وكم من عاشق بكى بحرقة لوداع المعشوق. كم من أم احتضنت بنيها بدموع وحزن موصية إياهم بأن “يديروا بالهم على أنفسهم”، وكم من أب قال لابنه “الله الله في نفسك”. في هذه النقطة ذرفت أنهار وسيول من دموع الوداع، وسالت بحار من قرة عيون المستقبلين فرحاً بالقادمين. يقال إن الدمعة الساخنة هي دمعة الحزن والوداع، وإن دمعة الفرح واللقاء باردة. إنها محطة “مع السلامة” و”الوداع” بكل اللغات، وهي محطة “أهلاً وسهلاً” و”مرحباً ومقرباً” بجميع اللهجات.

محطة القطار لوحة تختزل ألم الفراق، وتجسد فرح اللقاء، كم أبكت هذه البقعة من المكان من مسافر ومودع، وكم أسعدت كذلك من مستقبل وقادم. آه يا محطة القطار! يا لك من لوحة بلا قلب تحوي كل القلوب، ويا لك من جامد بلا مشاعر يضم كل الشعور. تستمر محطة القطار بآلية اللاشعور بالتوديع والاستقبال، بالفرح والحزن، بسعادة المستقبل، وحرقة قلب المودع.

بزاوية المحطة، جلست على طاولة المقهى، طلبت قهوة، فتحت كتاباً، نظرت للأعلى. شاشة تلفزيون تبث صور الأخبار صامتة. شاهدت محطة أخرى على الشاشة. لكنها من أغرب محطات السفر في القرن الـ21، بل لعلها الأولى من نوعها في الألفية الثالثة. محطة تودع ولا تستقبل، محطة دموع الحزن والفراق. إنها محطة غريبة عجيبة حقاً، محطة تغادرها القطارات ولا تصل إليها، محطة كل الموجودين بها من المودعين، وقفت أتأمل الوجوه على الشاشة، ليس بين هذه الوجوه وجه طفل فرح باستقبال أبيه الذي غاب بالخارج طويلاً بحثاً عن الرزق لأبنائه وأسرته، وليس بينهم عاشق ينتظر محبوبه بلهفة وشوق، ولا أم تنتظر ابنتها التي تغربت سنين في سبيل العلم والتعليم. معظم المسافرين من الأطفال والنساء. قلة من الرجال يسافرون من هذه المحطة.

طلبت رفع الصوت من نادل المقهى: أغرب من الغرائب! كلهم يتكلمون لغة واحدة، ويرفعون أكفهم إلى السماء يدعون إلهاً واحداً. هذه المحطة خاصة بأناس محددين من قومية ولغة ودين واحد.

تظهر لوحة مواعيد القطارات، يا للعجب! مواعيد المغادرة على اللوحة، وليس هناك قائمة لمواعيد الوصول! أي محطة هذه؟ الثواني فقط تفصل بين موعد رحيل قطار وآخر! كلها باتجاه واحد، كلها تسير نحو محطة واحدة! المحطة الأخيرة هي: محطة الموت! لماذا نقول قطار الموت، ولا نقول سيارة الموت، فلقد قتلت السيارات أضعافاً مضاعفة ممن قتلتهم حوادث القطارات النادرة؟

إنها محطة من الغرائب في عالم غريب.

تجاوز عدد المغادرين بقطارات هذه المحطة الثلاث وعشرين ألفاً، 100 ألف سقطوا من القطارات المسرعة متسببة بجروح لا شفاء لبعضها، وملايين من المودعين اصطفوا خارج المحطة بالعراء والبرد والمطر يودعون ولا يستقبلون وكلهم على قائمة المغادرين من دون استثناء. يا لهول هذه المحطة، كل هذه الملايين من مسافر ومودع بمحطة لم يمض على افتتاحها سوى 100 يوم. يقال إنه قد سبقتها فترات تشغيل تجريبية امتدت عشرات السنين وقد سافر بمرحلة التجريب آلاف مؤلفة.

أغلقوا هذه المحطة، أوقفوا السفر السرمدي ودموع الوداع، ضعوا أوتاداً على سكة هذا القطار اللعين. فجروا خطوطه، وأحرقوا قمرة القيادة، فقد والله طال الوداع بهذه المحطة وتكاثر من دون توقف، ولقد حان أمل الاستقبال.

Back to top button