خالد الخضري: غادة السمّان اعتبرتْني إبناً لها في اﻷبجدية
النشرة الدولية – حوار هالة نهرا
مثقّفٌ رزينٌ يتمتّع بعقلٍ مستنيرٍ، وأديبٌ شفّافٌ مبدعٌ، وكاتبٌ سعوديٌّ متميّزٌ بحضوره الوارف ودَوْره البنّاء وغزارة نتاجه وقلمه. يُسهم في رؤيته ومبادراته وعمله في النقاشات والطروحات المعرفية والثقافية الجوهريّة والقيّمة، كما يُسهم في البناء المعرفيّ وتشييد الجسور الإنسانية والثقافية والعلمية والأدبية. باحثٌ وإعلاميٌّ متمرّسٌ مهتمٌّ بصناعة مشاريع المحتوى الإعلامي والتدريب ونشر الوعي بالواقع المستقبليّ استناداً إلى الفكر والعقل. إنه الدكتور خالد الخضري الذي أجريتُ معه هذا الحوار.
تحدّثتَ في برنامج “جسور” عن أهمية تقبُّل الآخر والتعايش مع المختلفين عنّا. إلى أيّ مدى نحتاج راهناً إلى بناء الجسور مع الآخر المختلف في عالمنا العربي في ظلّ بعض موجات التعصُّب والتقوقع والانغلاق؟ وما أهمّية ذلك من وجهة نظرك؟
قضيةُ التعايش بين الشعوب المختلفة والأيدلوجيات المتعدّدة مسألةٌ مطلوبةٌ حالياً في الحياة المدنية التي نعيش وأيضاً هي تمثّل نضجاً مجتمعيّاً مهمّاً جداً، يتواكبُ مع العصر الذي نعيش في النظام العالميّ الجديد الذي يتطلّب أن تكون هناك قدرة عالية على التعايش بين البشر كبشر كوننا الآن نعيش في قريةٍ كونيةٍ واحدة، ما يجعلنا نفكّر بهذه الطريقة، ونتعامل بإنسانيةٍ تجاه بعضنا البعض.
وإنّ الاختلافات العرقية أو المذهبية أو حتى الدينية، ﻻ يجب أن تشوّه علاقاتنا اﻹنسانية، حتى نستطيع أن نصبح مواكبين لمعطياتِ العصر الذي نعيش فيه اليوم ونصبح قادرين على العمل إلى جوار بعضنا البعض من أجل النماء، ومن أجل أن نحقّق مزيداً من العطاء الخيّر لكوكبنا.
إنّ ما تعانيه البشرية اليوم من عنفٍ ناتج عن التطرّف، هو معتمد على أحادية الفكر، وأحادية التوجّه، والرأي الواحد الذي يعتقد أنه على صوابٍ دائماً، والذي يريد للبشر أن يسيروا على نهجه، بينما إذا ما عرفنا أنّ عدد سكّان العالم اليوم يفوق 7 مليارات نسمة، تتعدّد أفكارهم ومذاهبهم ومعتقداتهم، ندرك حينها أننا ﻻ نمثّل شيئاً أمام كل هذا الكمّ من الأيديولويجيات المتعدّدة، وندرك أنّ كل أيديولوجيا من تلك التعدّدية تظنّ أنها على صواب، وتظنّ أنها تمثّل الحق المطلق، في حين أنّ الحقيقة نسبية، ومن الصعب الجزم بإطلاق أيٍّ من تلك اﻷفكار أو الأيديولوجيات وفرضها أو تعميمها على كل البشر، وتلك سنة الله في الوجود، قدر الله أن نكون مختلفين، وبوصفي مسلماً فأنا أؤمن بذلك تماماً حيث ورد في القرآن الكريم اﻵية: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119]
وقوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35].
وقوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” البقرة (62)
كما أباح طعام أهل الكتاب للمسلمين، وطعام المسلمين لأهل الكتاب، وأجاز النكاح من المحصنات من أهل الكتاب؛ إذ يقول: “الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ” (المائدة أية 5).
وإذا انتقلنا إلى أصدقائنا “الكريستيان” في الديانة المسيحية، نجد في الإنجيل: (وأمّا أنا فأقول لكم أحبّوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مُبغضيكم وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم). ونجد أيضاً (إن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم).
وكلّنا نعرف قول السيد المسيح عليه السلام “إذا لطمك أخوك على خدّك الأيمن فأدر له خدّك الأيسر). كما نجد فى آيات الكتاب المقدّس (المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وللناس المسرّة).
كل هذه قيم إنسانية رفيعة تحثّ على التعايش السلميّ والصفح عن الناس من أجل أن يسود السلام والمحبّة على الأرض.
ذكرتَ في أحد مقالاتك أبرز نصائح المبدع الكولومبي العالمي ماركيز في مذكّراته المرتبطة بنتاجه الإبداعي -الروائي تحديداً- والتي كان لها أثرها على أجيالٍ من الكتّاب من بعده. إلى أيّ مدى أنت متأثّر بماركيز؟ ومَن هو كاتبك المفضّل الذي يشكّل مثالك الأعلى؟
الكاتب الكولومبي غابرييل ماركيز، الحائز جائزة نوبل على روايته الشهيرة: “مائة عام من العزلة” التي مثّلتْ في وقتها أشهر وأكثر الروايات مبيعاً على مستوى التاريخ البشريّ من ناحيةِ الكتابة، يُمثّل شخصيةً مختلفة ككاتبٍ وروائيٍّ، تأثّرتْ به أجيالٌ من الكُتّاب من بعده.
شخصياً ليس لديّ كاتب مفضل، إنما تأثّرتُ في بداية تجربتي الكتابية بالكاتبة الشهيرة غادة السمّان التي قامت بمراسلتي عبر رسالةٍ أرسلتْها لي في جريدة “الحياة” العام ٢٠٠١م واعتبرتْني ابناً لها في اﻷبجدية، بعد المقابلة التي أُجريت معي في القناة الثقافية المصرية وذكرتُ حينها أنني متأثّر بها، معتبرةً ذلك خطوة جميلة في تجاوز تابوه يعيشه المجتمع العربيّ في عدم اعتراف الرجل بالتأثُّر بالمرأة باعتبار – شعور الرجل أنّ المرأة تابعة له – واعتبرت أن الجيل الجديد من الشباب -الذي مثل جيلنا- “في بداية اﻷلفية الجديدة” تجاوز ذلك التابوه، وأنها درجة جيدة من الوعي، ثم حصل بيني وبينها تواصلٌ، وأصبحت ترسل لي رسائلَ أدبيةً في تلغراف من مقرّ سكنها في بيروت أو في باريس، أكّدت لي أنها ﻻ تجيد التعامل مع التقنية في حينها، حيث بدأت وقتها الهواتف المحمولة، وبدأ التعامل مع الكمبيوترات مع ظهور الويب سايت، الذي كنتُ أجيد التعامل معه، وﻻ زلتُ أريد أن أعرف المزيد عن “أستاذتي القديرة”، أو (أمّي في اﻷبجدية) كما أحبَّتْ أن تطلق تلك الصفة عليّ، أتمنّى أن أطمئنّ على صحّتها، في هذه المرحلة من حياتها، متمنياً لها طولة العمر.
أضيف أنه فعلاً ظهر تأثُّري بها في مجموعتي القصصية: “امرأة من ثلج” التي صدرت في العام ١٩٩٩م، وفي مجموعتي النثرية: “سيّدة المرايا” الصادرة عن دار الحوار في اللاذقية العام ٢٠٠٢م، وقد أهديتُ لها المجموعتين وفرحتْ بهما كثيراً، وسألتْني عن كمّية الطباعة لمجموعتي القصصية “امرأة من ثلج” الصادرة عن نادي الطائف اﻷدبيّ الثقافي الذي كنتُ عضواً به، فأخبرتُها بأننا طبعنا منها 3 آﻻف نسخة، فتفاجئتْ من ذلك الخبر، وأكّدت لي أن الطبعة الواحدة أو اﻷولى ﻻ تزيد عن ألف نسخة، وأنه كان ينبغي علي أن أوزّع الكمّية إلى 3 طبعات، حيث كانت تطبع من إصداراتها “اﻷعمال غير الكاملة” كل طبعة ألف نسخة، وهذا ما قمتُ بالعمل به بعد ذلك في إصداراتي التي تلَتْ تلك المجموعة القصصية.
إذا طُلب منك إسداء النصائح للكتّاب الجُدُد ارتكازاً على تجربتك الشخصية في الكتابة فبماذا تنصحهم؟
ﻻ أجيد النصائح في هذا الجانب، لكن ما يمكنني قوله أنّ على الكاتب أن يعيشَ الشغف، أن يجدِّدَ في ذاتِهِ تلك الدهشة الجميلة التي تربطنا بألقِنا بالحياة، فعندما تفقد الدهشة، عندما تفقد القدرة على التعبير عن معاناتك، الإحساس بمعاناةِ الناس، القُرب منهم، الإحساس بهم، ترجمة كُلّ ذلك عبر كتاباتك، فإنك ستفقد شهوة الكتابة كما عبّر عنها الكاتب الشهير “الطيب صالح” حين أجريتُ معه مقابلة في نهاية التسعينيات، وقد كان يكتب مقاﻻً أسبوعياً في المجلّة، حيث توقّف عن تقديم أعمال روائية جديدة، بعد أعماله الشهيرة التي كانت على رأسها: “موسم الهجرة إلى الشمال” و “دومة ود حامد” وغيرها، سألتُه: لماذا توقّفت؟ فأجاب: “فقدتُ شهوة الكتابة”، وهو بالضبط ما يمكن أن يحصل مع أيّ كاتبٍ عندما يفقد الدهشة بالحياة، تلك الدهشة التي يعيشها طفلٌ مع الحياة وهو يتأمّل مشاهدها المختلفة، وهو يحلم، يحلم بأحلامِهِ الكبيرة التي ليس من السهل ترجمتها من قِبَل أيّ كاتب، علينا ككُتّاب أن نتعاطى مع أحلامنا في الحياة ومع مشاهداتنا اليومية كما يتطلّع أطفالنا لها… عندما أشاهد طفلاً صغيراً لم يتجاوز العاشرة من عمره، وهو ينظر للناس وللشوارع من نافذة سيّارة، أظلّ أفكر بماذا يحلم هذا الطفل البريء وبماذا يفكّر، لكنني أتألّمُ كثيراً وربما تدمع عيناي، عندما أفيق على الواقع المستقبليّ الذي سيعيشه هذا الطفل كلّما كبرَ واكتشفَ حقيقةَ الحياة بما فيها من ألمٍ سيواجهه، ما يجعل بعضهم يشيخ وهو في سنٍّ صغيرة، الله يعين البشر “خلق اﻹنسان في كبد”.
كان ثمة تطوافٌ بملهمتك الوحيدة والمتكاثرة في آنٍ على صهوةِ الخيالِ الجارف وكنتَ الواحد والمتعدّد في ديوانك “نساء خوالد” النثريّ. هل سيكون كتابك المقبل نثرياً أيضاً يستحضر ملهمتكَ؟ أم أنّ شغفك يشمل مواضيع ثقافية وإنسانية أخرى أيضاً؟
حبيبتي وملهمتي رفضتني، لأنها كانت شديدة الغيرة من النساء الأخريات عندما كُنَّ يغازلنني أمامها، وربما من نساءٍ ﻻ يزلن في ذاكرتي، كان بعضهن في نساء خوالد وأخريات ﻻ يزلن عالقات في الذاكرة، يخالجن الروح، ورحم الله أستاذي القدير الناقد د. عالي القرشي الذي قال لي بعد صدور المجموعة: هل يعقل أن تختم مسيرتك الكتابية بسيرةٍ أدبيةٍ نسائية؟
أجبتُه: “ﻻ يزال هناك بريقٌ في الثقب اﻷسود سوف يتّسع”، رحم الله أستاذي الغالي القرشي رحمة اﻷبرار.
ما هي أحلام خالد الخضري؟
أحلامي اليوم مغايرةٌ كثيراً عمّا كانت عليه، فقد باتتْ مرتبطة بأبنائها الجميلين: محمد إبني اﻷكبر في المرحلةِ الجامعية، أتمنّى أن أراهُ في موقعٍ مناسبٍ يليقُ به قريباً إن شاء الله… ابنتي “ليليان” القارئة النهمة، المفكّرة الحالمة، والمتميّزة دراسيّاً وأدباً، والتي لديها نصوصٌ قصصية منذ أن كانت في اﻻبتدائية، أتمنّى لها أن تحقّق طموحها في أن تصبح طبيبة، وهي اليوم على أبواب المرحلة الجامعة، معالي الوزيرة ابنتي “جوانا” الوسطى – وخير اﻷمور الوسط كما يقال- في المرحلة المتوسطة، أطلقنا عليها لقب معالي الوزيرة ﻷنها ذات شخصيةٍ إداريةٍ مميّزة، والتي سوف أراها يوماً ما تتقلّد منصباً يليق بطموحها، ثم آخر العنقود المبدعة، المفكّرة، رسّامة اﻹنيمي ببعديهD2 وD3 والتي لديها قناة يوتيوب لهذه التصاميم، هي اليوم رشّحت لاختبارات موهبة، واجتازت بتفوّقٍ، وكلّي ثقة أنها سوف تتميّز على مستوى الوطن، وسوف تكون علامة فارقة في مستقبلها المشرق، ونحن اليوم نلمس ما توليه الحكومة الرشيدة -أعزها الله – بالموهبة.
وتحية تقدير لوالدتهم الغالية، المربّية الرائعة هيفاء الوادعي، وأسرتها الكريمة.
حدّثنا عن تطلّعاتك أو مشاريعك الثقافية المقبلة…
لديَّ مشروعُ روايةٍ جديدة منذ سنوات، لكنها ﻻ تزال متعثّرة كما يُقال، وأركّز على كُتُبي البحثية بشكلٍ أكبر، حيث لديّ مشروع – نفسي، تاريخي يتناول جزءاً مهمّاً من التاريخ المرتبط بالرجل والمرأة، وعلاقة الصراع بينهما بعنوان: “الحقد على الرجال”، بدأتُ في ترتيب فصوله وفي الكتابة فيه بشكلٍ جيّد، وكُتُب بحثية أخرى تتناول اﻹعلام النفسيّ.
شكراً جزيلاً مبدعتنا المتألقة الشاعرة هالة نهرا على هذا الحوار وأنا أتابع منجزك الكتابيّ الرائع.