مع اقتراب ذكرى 4 آب: بيروت العاصمة العصيّة على المصادرة.. الأيقونة العصيّة على الأجل المحتوم
النشرة الدولية – هالة نهرا
–
المدينة التي تحت الرماد يُسمَع هسيس جمرها الآن تطريباً وزهراً نورانياً يندلع ويفحّ في وجه الخراب، التي يُرى بعين الأعماق دبيب النمل المجنَّح تحت جلدها السميك المبريّ كقلمٍ ضوئيّ في قباب التاريخ.. تحت مسام اللغة التي تحمّصت كحبّات الفول في أفواه أهلها والقاطنين فيها.. التي تجول في كورنيشها وأزقتها عربات الذرة المشوية بدواخين تنفث أملاً متنقلاً يتمادى في صهيل الشعراء وعواء القمر، في فلامنكو العابرين كسحابةٍ ذات برق!
المدينة التي تَسَعُ العالمَ، والعالمُ يَسَعُ كيلو لِتْراتٍ من رطوبة هواء معاجمها ومفرداتها وأسئلتها المستجدة المتكاثفة كبخارٍ وغيمٍ عالق في الفضاء حيناً، وكأشجارِ المخيّلةِ المتهاطلة على عازفِ ناي يهوى الجاز والروك وشجن “الفادو” البرتغاليّ أحياناً… المدينة اللغز والرمز والعلامة، التي تحضن تلألؤات الحرّية وأسرابها وسرابها، وأخيلة التجريب، ومقامات اللهو والتجلّي والعراقة والأصالة والحداثة والتثاقف… بيروت بوشمها التراثيّ الفريد في رقبتها ومعصمَيها، بمدّها الكوسموبوليتي المغري كرنين الخلاخيل الفضّية، ببصمتها المشرقية العربية، بانفتاحها على استضاءات أوروبا والغرب، بإكتحالها بسحر الشرق، بذرّات جمالها الكونيّ، بانشغافها بالفرح وجموح الحياة، بالعيون البنية والبحرية والزمرّدية والعسلية والفستقية التي تحرسها كتمائم تُستحلى.. بضحكات أطفالها التي تقاوم الأعاصير والبراكين، بلون الشذا في عيون وجوهها وكُتّابها ومسطِّري رسائلها، بالذين يُسلّكون بالوعة الأحلام فيها، بروّاد مقاهيها وتر الأماكن وأقواسها، بأبطال أساطيرها وخرافاتها، بمعاجنها ومخابزها، بمختبراتها الفكرية والثقافية، بمناضليها وطليعيّيها، بتنوّعها الأخّاذ، بطيبة قلبها، بمزامير حلقها، بتناغي عشّاق فجرها، بإبتهالات ساحاتها وهتافات طلاّبها، بنوارسها وصقورها ويمامها… بيروت هذه، من ثامن المستحيلات أن تموت، والذين يراهنون على موتها ستلاحقهم لعناتها الملتهبة أبداً! سوف تنجو وتتعافى كبدرٍ سيبلغ تمامه وتستردّ قواها تباعاً وتمتشقها لأنها ببساطة العاصمة العصيّة على المصادرة، الأيقونة العصيّة على الأجل المحتوم والنهايات والقفول، لأنها تعويذة الأقدمين واللاحقين ضد اليأس والقنوط.
سيناريوهاتٌ كثيرةٌ سوداء ورمادية تُرسَم للمدينة، ومع ذلك فبَعد أيّ كبوة هناك قيامة أكيدة، والرجاء ينبغي أن لا ينقطع وأن لا يجفّ.
من أدعية الجياع وأصواتهم، من تمرّد الرومانسيين وإصرارهم، من تصميم وثبات الحالمين، من ناصيات الرؤيويين، من أعاجيب المفارقات والتناقضات والأحداث والصدف التي تشفّ عن الضرورة، سوف تنفض ذات يومٍ ثوبها من أرمدةٍ تتراكم فوقها؛ بيروت ليست منفضة الزمان التي كأنما يريدون أن تكونها! بيروت في هذه المنطقة مضخّة الروح ودار نشر الشمس والمطر ونشيدهما. بيروت بيروتات وحكايات شعبية وقصص صمودٍ ومجابهات بطولية وروايات لا تنتهي، وصنوبرٌ أفلت من المقاصل لينبت في نفوسٍ حرّة خالدة.. بيروت تغاريد وزغاريد مع لاءاتٍ وكلمة نَعَم مقدّسة ودارة وهالة ورنينٌ وحنينٌ محفّز إلى أفق الغد.. سيستغرق الأمر وقتاً؛ على الوقت أن يعلم أن كينونته لا تتجسّد باستحقاقٍ من دون بيروت لأنّ بيروت هي إحدى بوّابات الوقت. من تحت سابع أرضٍ ستستفيق وتفرك عينيها اللوزيّتين وتغسلهما بماء الورد على قطنٍ منفوش، وتتمطّى.. ثم تشبّ!
يا أيها السادة الذين تعجزكم بيروت عن فهمها تذكّروا أنّ بيروت –مع كلّ الوصف- لغزٌ يتبارى الكوكب في حلّه!
–
*النص للكاتبة والشاعرة هالة نهرا وجميع الحقوق محفوظة.