قرار بايدن بوقف تراخيص مشاريع الغاز المسال الجديدة سياسي وموقت
بقلم: أنس بن فيصل الحجي

الدور الاستراتيجي لثورة النفط والغاز الصخريين لا يقدر بثمن

النشرة الدولية –

قررت إدارة الرئيس جو بايدن الأسبوع الماضي وقف إعطاء تصاريح لمشاريع الغاز المسال الجديدة بحجة التأكد من أنها تتواءم مع أهداف محاربة التغير المناخي. وانقسم السياسيون الأميركيون بين مؤيد ومعارض وفقاً للحدود السياسية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ورحّب أنصار حماية البيئة بالقرار.

أثبت الرئيس بايدن أنه ثعلب في السياسة، ففي الوقت الذي ظهر فيه أنه عدو لدود للوقود الأحفوري، وأوقف خط أنابيب “كي ستون” الذي كان من المفترض أن يضخ 850 ألف برميل يومياً، ارتفع إنتاج النفط والغاز والغاز المسال وصادرات النفط والغاز المسال إلى مستويات تاريخية في عهده، ولم يتدخل في إتمام بناء خط “ترانس ماونتين” في كندا، والذي بدأ ضخ النفط فيه منذ أيام لملء الأنبوب، ودعم الشركات الأميركية المطورة لحقول النفط في غايانا وفنزويلا، وغض الطرف عن زيادة إيران لإنتاجها النفطي وصادراتها، على رغم العقوبات، كما أنه غض الطرف عن العقوبات النفطية على روسيا، حتى أنه تغاضى عن استيراد الهند النفط الروسي فوق السقف السعري. كما أنه سمح بنقل النفط الكندي بالقطارات بدلاً من أنبوب “كي ستون”، وبذلك استفاد أحد أكبر داعميه، وارن بافيت، مالياً لأن شركته تملك هذه القطارات.

المخزون الاستراتيجي

أدرك بايدن تماماً الأهمية الاستراتيجية لسحب النفط من المخزون الاستراتيجي بكميات كبيرة في عام 2022 بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، فسحب 180 مليون برميل، إضافة إلى 31 مليون برميل كانت مقررة من الكونغرس مسبقاً. محللون كثر لم يدركوا حتى الآن أن ما فعله بايدن هو ما تريده “الدولة العميقة” بغض النظر عن الاتجاهات السياسية. فعلى رغم انتقاد الجمهوريين للسحب من المخزون الاستراتيجي، إلا أنهم هم أنفسهم من طالب في التسعينيات بإلغاء وزارة الطاقة، وبيع المخزون الاستراتيجي كله.

ومع زيادة إنتاج النفط بسبب ثورة النفط الصخري، صدرت أصوات متعددة من كلا الحزبين تطالب بتخفيض مستويات المخزون الاستراتيجي لأنه أصبح عبئاً على الموازنة ولا فائدة منه مع ارتفاع إنتاج النفط. وبحلول عام 2015، أدرك العديد من الخبراء والسياسيين أنه لا حاجة للولايات المتحدة بتخزين النفط الخفيف الحلو، لأن إنتاج النفط الصخري كله خفيف حلو. بحلول عام 2022، بلغ إنتاج النفط الصخري 8 ملايين برميل يومياً، أو ما يعادل ثلاثة مليارات برميل تقريباً في السنة، وتم تصدير أكثر من 30 مليون برميل في ذلك العام، ومن ثم فإن بيع 100 مليون برميل من النفط الخفيف لا وزن له من ناحية أمن الطاقة.

كما أصبح واضحاً أن الولايات المتحدة تصدر النفط الحلو، وتستورد نحو 6 ملايين برميل من النفط الحامض، كما أن المنطقة المهددة دائماً بالأعاصير في خليج المكسيك تنتج النفط الحامض أيضاً. هذا يعني، من وجهة نظر أمن الطاقة والأمن القومي، أنه يجب تخزين النفط الحامض، وليس النفط الحلو، ومن ثم يتم بيع النفط الحلو وشراء النفط الحامض بدلاً عنه.

وأدرك الرئيس ترمب نفس الفكرة، لهذا أعلن في 2018 عن رغبته ببيع أكثر من نصف المخزون الاستراتيجي، وهي كمية أكبر من الكمية التي باعها بايدن.

أدرك بايدن الأهمية الاستراتيجية لثورة النفط والغاز الصخريين، والتي لا تُقدر بثمن، واستغلها إلى أبعد حد. فبعد شن روسيا الحرب على أوكرانيا، تم فرض حظر أوروبي على النفط الروسي، وانخفضت إمدادات الغاز الروسي لأوروبا. استغل بايدن الفرصة ووجه كل القدرات الأميركية نحو أوروبا حتى سيطرت الولايات المتحدة على حصة كبيرة من إمدادات النفط والغاز إلى القارة العجوز، والتي جاءت على حساب الحصص الروسية. وحتى يضمن عدم تفكك الاتحاد الأوروبي مع تفاقم أزمة الطاقة، أعطى استثناءً لشركتين أوروبيتين هما “إيني” الإيطالية و”ريبسول” الإسبانية لتصدير النفط الفنزويلي على رغم العقوبات على فنزويلا، كما أعطى ضوءاً أخضر لإيران بتصدير النفط لأوروبا، والذي مكّن إيران من التخلص من مخزونها العائم كله، والذي بلغ أكثر من 70 مليون برميل، ثم زيادة إنتاجها وصادراتها.

سياسات وأولويات

وعندما تجاوزت كندا كل المشكلات المتعلقة بإكمال خط أنابيب “ترانس ماونتين”، والذي يمكّنها من التصدير المباشر إلى آسيا وغيرها للمرة الأولى في تاريخها، أدركت إدارة بايدن، ربما عبر لوبي بعض المصافي، أن إمدادات النفط الكندية إلى المصافي الأميركية في موانئ خليج المكسيك قد تنخفض، وهذه المصافي مصممة بطريقة تجعلها تعتمد على النفط الثقيل نسبياً، فمنحت إدارة بايدن استثناءً لشركة “شيفرون” من العقوبات المفروضة على فنزويلا لمساعدة هذه الدولة المنهارة اقتصادياً في زيادة إنتاجها وصادراتها من نفس نوعية النفط، شرط أن يُصدّر النفط إلى الولايات المتحدة، ثم تم التخفيف من العقوبات لدخول شركات الخدمات النفطية العالمية لفنزويلا كي تزيد صادراتها إلى الولايات المتحدة.

يثبت تاريخ الدول الصناعية التي تحمل لواء التغير المناخي أنه في حالة التعارض بين السياسة الخارجية والأمن القومي والاقتصادي من جهة، وسياسات البيئة والتغير المناخي من جهة أخرى، فإنه يتم التضحية بسياسات البيئة والتغير المناخي، والأدلة على ذلك كثيرة، وما حصل في بعض الدول الأوروبية، بخاصة ألمانيا، في العامين الأخيرين يثبت أن سياسات التغير المناخي، سلعة كمالية، تقوم الدول بتبنيها في حالة الرخاء وتتخلى عنها في وقت الشدة. هذا يعني أن كل ما يقال عن التغير المناخي ليس مبدأ، لأن المبادئ لا تتغير، وإنما سياسات، تتغير بحسب المصلحة.

كل ما سبق هو مقدمة للقول بأن ما قام به بايدن هو سياسة موقتة قبل الانتخابات الرئاسية لإرضاء مجموعة معينة من الناخبين في الحزب الديمقراطي في وقت يتوقع وجود فائض في الغاز المسال، ومن ثم فإن التأخير لن يضر بهذه الصناعة كثيراً، بل على العكس، قد يفيدها لاحقاً، ولكنه يؤثر في بعض الشركات التي تحاول تأمين تمويل من البنوك لمشاريعها الجديدة.

يدرك بايدن تماماً الأهمية الاستراتيجية للغاز المسال، تماماً كما كان سلفه ترمب، والذي يوحي بأن الدولة العميقة تدعم صناعة الغاز المسال، بخاصة أن هناك أدلة كثيرة على أن الولايات المتحدة بدأت تخطط لطرد الغاز الروسي من أوروبا منذ عام 2014. فبعد إعلان بوتين ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، توقف خط “نورد ستريم 2” في 2022 وتفجير خط “نورد سنتريم 1” في 2023، ما رسخ دور الغاز الأميركي في أوروبا لعقود مقبلة.

زر الذهاب إلى الأعلى