الأيام مثل الريح
حنان مبروك

النشرة الدولية –

عام 1928، وبينما الحياة تسير ببطء وهدوء، فلا تكنولوجيا تفتح العقول والعيون والعالم وتدخل الناس في سباق نحو سعادة ظاهرية، ولا سيارات ومواصلات متاحة في كل وقت ومكان، ولا تطورات بشرية هائلة تبشر بروبوت لكل فرد، ولا شيء مما نراه أمرا طبيعيا اليوم. في ذلك العام الذي كان يسير سيرا طبيعيا غنى الفنان التونسي الشهير الشيخ العفريت “الأيام كيف الريح في البريمة” (الأيام مثل الريح في حلقة معدنية).

العفريت (1896-1936) ولد في زمان يختلف عن زماننا كليا، لكنه كان يشعر أن الأيام تنساب من بين يديه كالرياح حتى أنه طلب أن يكتب عنوان أغنيته على شاهدة قبره! وماذا نقول نحن اليوم وأغلبنا بات يردد في كل حين “الدنيا تجري”، “العام يدخل ويخرج وما نحسوش بيه” (لا نشعر به)، وماذا يقول جيل التسعينات المظلوم، الذي عاش زمنا متقلبا شديد التحولات فبات يشعر أن العمر سرق منه بين حروب وثورات ربيع عربي وأوبئة وأحداث لم يستوعبها بعد.

هذا الإحساس بسرعة الحياة، مع التكنولوجيا التي زادت الطين بلة، جعلا الناس في سباق محموم، يركضون كالعميان ويتحولون إلى قطعان من المستهلكين. وكلما تخلف عنهم الإنسان شعر بأن الحياة سريعة وهو لم يحقق شيئا بعد. حتى الدراسة حاولوا التقليل منها، فالذي يحققه مؤثر على الانستغرام أو التيك توك اليوم لا يحققه أي دكتور في أي مجال، كيف إذا نقنع طفلا أن يمضي سنوات عمره في التعلم؟

في الماضي كان لي عم كلما ذكروا له أنني مازلت أدرس في العاصمة، كان يجيب “ما تطرفش ما تخافش” بمعنى أنها لا خوف عليها طالما لم تنعزل ولم تمشِ بمفردها.

لم أقتنع أبدا بكلامه، ربما لأنني شخص يحب حدوده جدا، أرسمها أمام الجميع، وأؤمن أننا لم ولن نكون نسخا متشابهة، بل على كل واحد منا أن ينفرد بفكره واختياراته وطريقه وحتى درجة سرعته. وكنت دائما أتذكر قول الله في سورة الأنعام “وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون”.

بعد سنوات جاءت الأحداث الإرهابية وتلتها جائحة كورونا لتعلمنا أن من يمشي بمفرده قد يكون بمأمن عن الآخرين، ثم علمتنا الحياة قليلا كيف أن من يتصالح مع العزلة/ وليس الوحدة ويرسم طريقه ويمشي فيه لن يخسر، قد يخاف، قد يفشل فيعود أدراجه وينطلق من جديد، قد يظل السبيل، قد يسطو عليه قطاع طرق، قد يتعب فيرتاح، لكنه سيصل في الأخير إلى مبتغاه وإن لم يصل فيكفيه شرف المحاولة والثبات.

حتى وإن ظننت أنك متأخر في هذا العالم السريع، فتأخرك عن الركب يمنحك نظرة أوسع وأشمل، تجعلك كرجل عجوز يقف على قمة جبل يرى ما لا يراه الآخرون وينتبه إلى ما لا ينتبه إليه القطيع المتدافع، إنها نظرة بانورامية للحياة بكل جوانبها، بعدها لا يبقى لك سوى أن تقرر هل تركض محاولا اللحاق بهم، أو تختار طريقك وتمشي نحوه بهدوء وثبات؟ وفي كل الأحوال قد يكون طريقك مهجورا لقلة سالكيه، أو ربما هو طريق مزدحم ببعض الأشخاص وربما تستفز فيك تلك النظرة البانورامية الفضول والرغبة في التجربة فتتبع طريق القطيع لكن هذه المرة ببطء ودون تكالب.

قد نتفق جميعنا أن الزمن سريع المرور، وأن “الأيام كيف الريح في البريمة”، لكن يبدو فعليا كما كتب أحدهم على السوشيل ميديا “السير بسرعة سلحفاة في هذا العالم المتسارع بجنون ألطف بكثير من محاولة اللحاق به، في البداية ستشعر بالغباء والتأخر لكن مع مرور الوقت سترى كل شيء من بعيد وتتجه نحو ما يناسبك وما تستطيعه وما تحسن صنعه”.

زر الذهاب إلى الأعلى