هالة نهرا: فيروز وزياد الرحباني: تيّارٌ طليعيّ

النشرة الدولية –

يتبدّى لدى زياد الرحباني تميُّزُ القولِ الشعريِّ أو الكلاميِّ الصِّرف في أغاني فيروز (أغنية “صباح ومسا” على سبيل المثال لا الحصر) على اعتباره يجنحُ نحو المغاير واللمّاح والطريف والبسيط بأسلوب السهل الممتنع المكتنز بفرادتِهِ وطزاجتِهِ الدائمة، والذي يوقظُ لدى المتلقّي الدهشةَ غالباً، علماً أنّ تجربةَ زياد في الكتابةِ تلتصقُ طبيعياً بعمقِهِ وموهبتِهِ الطالعَين من غور الحياةِ الواقعية والعاكسَين لها.

وإذا كانت ثمّة مبالغة في القول إنّ زياد الرحباني شاعرٌ وهو في الحقيقةِ كاتبُ كلماتٍ للعديد من الأغاني التي يُمَوْسقها ببراعةٍ فمن الجدير بالذكر أنه خالقُ مسحةٍ شاعرية أحياناً كما في الأغنية المذكورة وأغنية “شو بخاف دِقّ عليك”، تُعزّزها أيضاً الموسيقى الخلّابة في ميلها نحو الشِّعريةِ  poétique، وهذا الخلْقُ مختلفٌ عن المعهودِ ولو تمظهر عاديّاً بنظر بعضهم.

إن إدراكَ زياد الرحباني الفنّي في الكتابةِ الموسيقية وكتابةِ الكلمات ممسوسٌ بوعيٍ تجريبيّ خلّاق وجريء يشكّل حالةً وظاهرةً مُؤسْلَبة على المستوى العربيّ، ويحاول بصورةٍ واعية أو لاواعية أن يقلّدَهُ كثيرون عبثاً، ولأنّ زياد مبدعٌ استثنائيٌّ فإنه حرٌّ في اجتراح ما يشاء لغةً وميلوديا وهارموني ورؤيةً للصوت أو رؤيةً آلية أو أوكسترالية.

يَفتِلُ زياد خيوطَ كلماتٍ في فَلَكِ اليوميّ والتلقائيّ المتداوَلِ بِمِغزَلِهِ الخاص ويلوّنها ويرصُفُها على طريقته ليُعيدَ إنتاجَها ضمن رؤيةٍ فنيةٍ إبداعيةٍ شاملة تلتحفُ بالموسيقى وتخدم الأغنيةَ وحضورَ فيروز الغنائيّ.

هذه الجسارةُ قولاً وتنغيماً وهذا النبضُ الزِّياديُّ الفريد قَرَّبا فيروز إلى قلوب الشباب والجيلِ الجديد أو بالأحرى الأجيال المتعاقبة التي عشِقتْ تجربة زياد معها أو تعلّقتْ بها. لزياد أيضاً سطوتُه ومكانتُه في المشهد الفني اللبناني والعربي، وتجربتُه مع فيروز قد أغنتْهُ فنياً وأغنَتْ فيروز أيضاً في مرحلةٍ مختلفة عن مرحلةِ تعاونِها مع الأخوين رحباني عاصي ومنصور.

مع زياد أيضاً جمعت فيروز بين النخبويّ والشعبيّ، وأظهرتْ تجرِبَتُها قدرتَها على مواكبةِ لغة العصر ونيلِ إعجابِ واستظرافِ الجمهور في الكثيرِ من الأحيان. جعل زياد فيروز تنطق بمفرداتٍ وعبارات مثل “يخرب بيت عيونِك” (أغنية “عَ هدير البوسطة”)، و”مَلّا إنتَ” (أغنية “كيفَك إنتَ”).

تبدو الإضاءة على زياد ناقصةً إذا لم نتنبّه لاندراجِ تجرِبته الموسيقية ضمن مسارٍ لبنانيٍّ عربي معيّن، وإذا لم نكتنِهْ تموضُعَها الموسيقي وتَمَركُزَها الفنّيّ. وللتاريخِ وحده أن يبلّرَ الأبعادَ الإضافية لتلك التجربة ودلالاتها المتلفّعة بعباءةِ الإرثِ المحلّيِّ والقوميّ من جهة، وبأدواتِ اللغة الموسيقية العالمية النافذةِ إلى سِكَك الآخر من جهةٍ أخرى.

كذلك فإنّ زياد هو ابن المدرسة الرحبانية، أي مدرسة “الأخوين رحباني”، رغم تمرُّده الإبداعي عليهما أحياناً وفرادة بَصمته الموسيقية. انصرف زياد، جزئياً، إلى الشرقيّ والطربيّ الحديث آناً، وإلى سُبُل الدمج المختلف نوعياً آونةً.

سار الأخوان رحباني العظيمان (عاصي ومنصور) على تربةِ التراثِ الموسيقيِّ المحلّيّ وأرصفةِ الفولكلور الخام. وقد حثتْ خُطاهما على ولادةِ حركةٍ جديدة ضمن أُطُر النبشِ في ملامح الهوية الموسيقية اللبنانية. ولا نعني بإبرازِ فِعْلهما موسيقياً التنكُّر لما قام قبلهما في لبنان، ولا الانتقاص من قيمةِ الآخرين. لكنّ أعمالَهما المغايرة للسائد آنذاك عكستْ لغةَ عصرٍ جديد بأدواتٍ جديدة.

ولعلّهما عمدا إلى إضفاء “البوليفوني” على روح التراث… علماً بأنّ التراث الموسيقي اللبناني لم يكن يعرف كُنه البوليفوني قبلهما، باستثناء بعض المحاولات التجريبية التي لم تقوَ آنذاك على ولوج جوهر التراث فبقيت محصورةً بين حلقاتها النخبوية. وأمّا عاصي ومنصور، فكانا متنبّهين إلى خواص اللغة الموسيقية المحلّية، ومدركَين لمزاجها العربيّ والشرقيّ العام، ما أدّى إلى حلٍّ استثنائيّ للمعادلة شبه المستحيلة بين “التراث والتجديد”.

وفي العودة إلى نتاج زياد ارتباطاً بعمل الأخوين، لا بدّ من القول إنّه انطلق من الأسسِ الأوّلية في هذا الميدان، لينأى في ما بعد عنها، وليصيرَ على مسافةٍ قصيرةٍ من مشروعِهِ الخاص. ويتبدّى مدى التداخُل بين الأخوين وزياد في خمسة أمور:

أوّلاً: دعائمُ الدمج الحداثيّ ومفاهيمُه المتطوّرة، غير المكتفية بالنظام الغربي التونالي tonal المقتصر على المينور والماجور فحسب، بل المستعينة بتراكيبَ نظامٍ مقاميٍّ آخر يُعرَف بـ”مودال” modal.

ثانياً: الجمعُ بين التمرّسِ العلميّ والعمليّ بالخلفيّتين الغربية والعربية.

ثالثاً: ترتسم ظلالُ الأخوين على حائط زياد التأليفيّ والتوزيعيّ، بل على سلَّم قِيَمه المتمثّلةِ في اللجوء إلى الدمجِ كوثبةٍ مُلحّة، في سبيل تطوير الموسيقى اللبنانية والعربية.

رابعاً: كيفية عبور الضفّتين الشعبية والنخبوية معاً، وفي آنٍ واحد.

خامساً: كيفية مقاربة إشكالية ثلاثة أرباع الصوت، أكان ذلك على مستوى التوزيع الأوركستراليّ أم في حقل التوضيب arrangement.

هنا نشيرُ إلى وعي الأخوين وزياد مسألةَ عدم الوقوع في فخّ الإسقاطِ البوليفوني- الهارموني الغربي على أسْطُر الأنساق والأغاني والصيَغ الموسيقية المقامية العربية. وتأكيداً على ذلك قال زياد: “من الأمور التي تعلّمتُها… إبراز الهوية الشرقية والوطنية للموسيقى، والتأكيد على هويّتي الثقافية أينما وُجدتُ في العالم، من خلالِ التركيزِ على المقاماتِ الموسيقيةِ الشرقية، والمحتوية منها على أرباع الصوت، وإبرازِها بطريقةٍ مركّبة وغير تقليدية عبر الكتابة الهارمونية لهذه المقامات”. وأضافَ زياد ردّاً على سؤال الناقد الراحل نزار مروّة عن الوعي الذي دفعه إليه والدُهُ عاصي: “أنتج (الوعيُ) اقتناعاً تامّاً بالنسبةِ لي بأنّ أيّ موسيقى عالمية لم يعد بمقدوري التعاطي معها تأليفاً، عزفاً وأداءً، إلاّ من خلال مناخِ الموسيقى الشرقية”.

تبدّى تقديرُ زياد للأخوين في ألبوم “إلى عاصي” (1995) حيث أعاد توزيع أغاني الأخوين ونكَّهَ أغانيهما برؤيتِهِ التجديدية فقارنت الأجيال بين الرؤيتين تلقائياً.

وأمّا جزءٌ من مشروعِ زياد المتفرّد، فقد صُنِّفَ في جانبٍ منه -لا بأكمله- في خانة “الجاز الشرقي”، علماً أنه يتبدّى في تجربتِهِ مع فيروز مثلاً في “الليالي” في ألبوم “كيفك إنت” الذي صدر في العام 1991 (يا ليلي ليلي ليلي ليلي يا ليلي يا ليل) حيث الدمج في هذا المثال الإبداعيّ الفتّان والفريد عربياً وعالمياً بين الليالي الارتجالية الطربية المشرقية العربية، وبين روح الجاز، بصوت فيروز الساحر. وبينما أخذتْ تنتشر عبارة “جاز شرقي” Oriental Jazz في الفضاءِ النخبويِّ اللبناني، كاصطلاحٍ ملازمٍ للخليطِ الموسيقي الجديد، تبرّأ زياد من المصطلح، وصَرَّحَ بأنّه غير علميّ لأنّ الجاز هو الجاز في الشرق والغرب، مُخلِّفاً بذلك مجادلاتٍ نقدية لم تُبَتّ حتّى يومنا هذا. وبمعزل عن ذلك، تمظهرتْ معالمُ مزجِ الروح الشرقية بالغربية الممهورة بالألمعية الحادّة، في الأعمال التالية عموماً حيث برز زياد وفيروز: “وَحْدُنْ”، و”معرفتي فيك” (1987)، و”كيفك إنت” (1991)، و”إلى عاصي” (1995 حيث أعاد توزيع أغاني الأخوين)، و”فيروز في بيت الدين 2000″، و”وَلا كيف” (2002)، على سبيل المثال لا الحصر. كيمياءٌ من مزيجٍ وإشراقاتٍ إبداعية في نسيجِ موسيقاه وتقاطيعِها وخلاصتِها، يزدحمُ بالتلألؤات.

في أغنية “عودك رنّان” (أسطوانة “معرفتي فيك”) – المنطوية على مقام البياتي- انتقالٌ من صيغة الطرب التقليدي إلى أسلوبٍ إيقاعيٍّ حديث مضمّخ بنفَسٍ كرديّ وبعصب التأليف المعاصر. وقد يكون التأثير الكرديّ منبعثاً أوّلاً من آله البزق التي يتقن زياد العزف عليها (إلى جانب البيانو)، والتي وجّهه إليها والده عاصي، ومن احتكاكه لاحقاً بالمناخ الموسيقي الكردي التقليدي في لبنان. كما نشير إلى بعض أنفاسه الخارجة من رئة المدرسة المصرية (في بداياته خصوصاً): في أغنية “بعتّلك يا حبيب الروح” (من مسرحية “نزل السرور) و”نزل السرور” مثلاً. وهذا التأثر هو أيضاً بروّاد المدرسة المصرية، لا سيما سيد درويش (والد الموسيقى العربية الحديثة)؛ فالقدرة على التقاط الحسّ الشعبي – ثمّ صوغه بأسلوبٍ فنّيٍّ متطوّر وبسيط ومختزل- قد تجلّت في أعمالِهِما بصورةٍ لافتة.

زياد المبدع المحصّن بوجع الناس وحبّ الناس يشبه سيد درويش في قربه التاريخي من نبضِ الشارع، وبخاصة في الأغاني الملتزمة والوطنية.

أخْبَرَ زياد الجمهورَ في حوارٍ مُتَلْفَزٍ له في مصر (فضائية “سي بي سي” مع الإعلامية منى الشاذلي) بأنّ المرّة الأولى التي لحَّنَ فيها لفيروز تمثلتْ بأغنية “سألوني الناس” (ونذكر أنها أُدرجت في مسرحية “المحطّة”، 1973). نَسَجَ زياد اللحن عندما كان بين الرابعة عشرة والخامسة عشرة من عمره، وفقاً لأقوال زياد في الحوار المتلفز. وعلى حدّ تعبير زياد فإنّ عمَّهُ منصور هو الذي قرّرَ ذلك في إثْرِ غياب عاصي: كانت ثمّة أغنية أعَدَّها زياد لمروان محفوظ في البداية وهي التي سوف تتحوّل إلى “سألوني الناس” في ما بعد، علماً أنّ كلامَ الأغنية كان مختلفاً. سَمِعَ منصور اللحن وقرّر وقتذاك أن يركِّبَ على اللحنِ كلماتٍ يكتُبُها هو عن أخيه عاصي، كما قال زياد. في الحقيقةِ لقد كان عاصي في المستشفى. تجدر الإشارة إلى أنّ منصور قال في حوارٍ مُتَلْفَزٍ قديمٍ له بالأسود والأبيض إنّ الأغنية من ألحان زياد وتوزيع إلياس الرحباني.

لحن “سألوني الناس” المشرقي العربي الأصيل على نوْلِ مقامِ “البياتي” هو لحنٌ خالد، يَشِفُّ عن أصالةِ زياد ومدى شُهوقِ موهبَتِهِ منذ بدايات الرحلةِ المتميّزة مع فيروز وفي فضاءِ التلحين عموماً.

أهمّيةُ زياد الرحباني أيضاً أنه لا يؤلّف في أُطُرِ قوالب موسيقية جاهزة ولا يَتَعَجَّلُ فِي أُمُورِهِ، بل يُطلقُ الأعمالَ الناضجةَ والمَحُوكة. لا يكتفي بالتفنُّنِ الإبداعيِّ والجماليّات الموسيقية المنسابة في رؤيته الفنية الحصيفة كانسياب الماءِ في الوديان، بل يحمل أيضاً رسالةً إنسانيةً بليغة منخرطاً – بصِدقٍ وبخلفيةِ القناعة الراسخة- بقضايا الواقع والأرض والإنسان وهو الذي حضَّ فيروز على تأدية “رفيقي صُبحي الجيز” (من كلمات وألحان زياد) التي تتدثر ببُعدٍ طبقيٍّ يساريّ (الأغنية عن عامل النظافة صُبحي الجيز وقد غنّاها قبل فيروز الفنان اللبناني الملتزم خالد الهبر)، وأغنية “خلَّصوا الأغاني” (“هنّي ويغنّوا عَ الجنوب… ولا الشهدا قلّوا ولا الشهدا زادوا، وإذا واقف جنوب واقف بولادو… اللي عم يحكوا اليوم هَاوْ غير اللي ماتوا، المعترّ بكل الأرض دايماً هوّ ذاتو”) وهي للمقاومة الوطنية اللبنانية وقد غنّاها قبل فيروز الفنان اللبناني الملتزم سامي حوّاط في شريط “أنا مش كافر” في منتصف الثمانينيّات.

أسّس زياد الرحباني لحساسيةٍ وذائقة فنيتين جديدتين تأصّلتا في مسامع المتلقّين وأسهَمَ بجدارةٍ في رسم أفق جديد للأغنية الرحبانية والأغنية الشعبية المعاصرة والموسيقى اللبنانية والعربية الحداثية.

يستحيل اختصار تجربة زياد مع الهائلة فيروز نظراً لثرائها ومدى تشعُّبها وهي تحتاج إلى موسوعةٍ كاملة لإيفائِها حقّها، وكانت هذه الإضاءة الموجَزة بمثابةِ تحيّة لزياد و”جارةِ القمر” فيروز في تعاوُنِهِما الفنّيِّ الإبداعيِّ المثمر والطليعيّ الخالد. || هالة نهرا

 

زر الذهاب إلى الأعلى