جريمة مسرح موسكو وخطر الإرهاب
بقلم: د. سالم الكتبي

النشرة الدولية –

لم يغب الإرهاب عن قائمة التحديات التي تواجه العالم، حيث تتكاثر أجياله وتنظيماته في مناطق شتى من العالم، ولكن اللافت في الهجوم الدامي الذي نفذه أربعة مسلحين على قاعة “روكوس سيتي” للحفلات الموسيقية بالقرب من موسكو، هذا المستوى البشع من الدموية والعنف وسفك الدماء، والذي يذكرنا بمجزرة السابع من تشرين الأول (أكتوبر) التي نفذتها حماس الإرهابية، حيث تشير مشاهد القتل المتداولة في هذا الحادث لدموية المنفذين، كما تضع في الوقت ذاته علامات استفهام حول هروبهم بعد ارتكاب جريمتهم مباشرة.

هذا الهجوم الذي تبناه تنظيم “داعش ـ خراسان” في روسيا يمثل تصعيداً كبيراً للأنشطة الإرهابية ويحمل علامات استفهام عديدة حول المدبر الحقيقي وتوقيت العملية الإجرامية، التي سبقتها تحذيرات من السفارة الأميركية في موسكو بشأن عملية إرهابية محتملة.

الهجوم الوحشي الذي أسفر عن مقتل وإصابة العشرات في روسيا، من بين جرائم إرهابية قليلة أثارت الجدل الواسع حول هوية المدبر الحقيقي، بالرغم من إعلان تنظيم “داعش ـ خراسان” تبني العملية، وأحد أسباب هذه الريبة هو الظروف والملابسات التي وقعت فيها، حيث تتفاقم حالة العداء والشكوك والاستقطاب الدولي، كما زادت التأكيدات الأميركية بشأن تبرئة أوكرانيا، التي وجهت إليها أصابع الاتهام فور وقوع الحادث، زادت من التكهنات من الجدل والشكوك.

في السابع من آذار (مارس)، قالت السفارة الأميركية في موسكو إنها تتابع تقارير تفيد بأن متطرفين لديهم خطط للهجوم على أماكن تجمعات في موسكو، بما في ذلك الحفلات الموسيقية، ونصحت السفارة المواطنين الأميركيين بتجنب التواجد في الحشود الكبيرة “خلال الـ48 ساعة القادمة”، وهي معلومات قالت هيئات الأمن الروسية إنها تلقتها ولكن من دون تفاصيل.

هذه التحذيرات هي السبب في تبني بعض المراقبين فرضية التورط الغربي المحتمل في هجوم موسكو، ولكن الموضوعية تقتضي القول إن السفارات الغربية تصدر الكثير من هذه التحذيرات في توقيتات ودول مختلفة، وهي معلومات مستمدة من دوائر استخباراتية، والقليل منها يكون صحيحاً، وأغلبها عبارة عن استنتاجات وقائية لمعلومات ترصدها هذه الدوائر. وبالتالي من الصعب مبدئياً القفز إلى تحليل يمكن الاعتماد عليه في بناء فرضيات منطقية اعتماداً على هذه التحذيرات، التي تشبه التحذيرات التي تلقتها إسرائيل ـ على سبيل المثال ـ قبل الهجوم البشع في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الذي شنته حركة حماس الإرهابية، ولم تأخذ الدوائر الإستخباراتية الإسرائيلية هذه المعلومات على محمل الجد، ما تسبب في وقوع الكارثة التي لا تزال توابعها قائمة حتى الآن في قطاع غزة، وتشغل المنطقة والعالم بحثاً عن سبل للخروج من هذه الأزمة غير المسبوقة.

المعلومات الاستخباراتية التي يتم تداولها بين الأجهزة المختصة في إطار التعاون الدولي والثنائي لمكافحة الإرهاب لا تنطوي على رصد تفاصيل دقيقة تقود إلى وضع خطط وقائية، ولكنها قد تكون مجرد إشارات معلوماتية صغيرة للفت الانتباه نحو اتجاه معين، أو خيط رفيع يحتاج إلى المزيد من البحث والتتبع الوقائي بغرض إحباط جرائم إرهابية كبرى، وقد أكدت مصادر أميركية أنه بالإضافة إلى التحذير العلني للأميركيين الموجودين في روسيا، فقد تم إبلاغ هذه المعلومات للسلطات الروسية بموجب سياسة “التحذير الإلزامي” القائمة منذ فترة طويلة، وقد أكدت الهيئات الأمنية المختصة تقلي معلومات من الجانب الأميركي حول التحضير لهجوم إرهابي، لكنها معلومات “ذات طبيعة عامة من دون تفاصيل”.

في مقابل ما سبق، هناك شكوك تتداولها بعض وسائل الإعلام والسوشال ميديا تشير إلى أنَّ عملية “روكوس سيتي” هي “محاولة شوشرة” أو تشتيت انتباه عن التطورات على جبهة أوكرانيا التي تتقدم فيها روسيا عسكرياً بشكل واضح، أي أنَّ هناك أصابع غربية تقف وراء هذه العملية الدنيئة، وهي في مجملها شكوك ستبقى حتى تتوصل أجهزة الأمن الروسية إلى معلومات يقينية حول الدوافع الحقيقية للعملية والجهة المنفذة لها، لا سيَّما أن الأمر لا يحتاج إلى تحليل سياسي أو أمني بقدر ما يحتاج إلى معلومات موثوقة للوقوف على حقيقة الأمر، بل إن من الخطورة بمكان القفز إلى استنتاجات تحليلية قائمة على ترابط الظروف أو تلاحق الأحداث بشكل قد لا يكون فيها أي علاقة منطقية، مثلما قال البعض إنَّ هذه العملية جرت بعد ساعات من استخدام روسيا حق “الفيتو” ضد قرار أميركي في مجلس الأمن بشأن غزة، في ربط قسري للأحداث، لأن تدبير مثل هذه الجرائم يحتاج إلى فترات زمنية طويلة ولا يعقل أن يكون قد ضغط أحدهم على “زر” فقام الإرهابيون المجرمون بسفك دماء هذا العدد الكبير من الأبرياء.

البعض يقول إن روسيا قد لا تعلن الحقائق بشأن الجهة المنفذة، وقد تتجه إلى توظيف العملية في إطار آخر في أزمة أوكرانيا، وهذه أيضاً فرضيات واردة في عالم السياسة ولا يمكن استبعادها، ولكن في مجمل الأحوال فإن مثل هذه الجرائم الارهابية تتطلب تعاوناً دولياً جاداً، ولا يجب أن تكون ضمن ملفات الخلاف بين الدول والقوى الكبرى، لأنَّ العدو واحد والخطر الإرهابي لا يستثني أحداً، ولا يجب أن يكون هناك خلط للأوراق أو تصفية للحسابات في مثل هذا الملف المعقد، والمسألة هنا لا تتعلق بوجود روابط واتصالات أو علاقات غير معلنة بين تنظيمات الإرهاب وأجهزة الاستخبارات من عدمه كما يردد البعض في مثل هذه الظروف، فالمشهد بأكمله تحكمه المعلومات المؤكدة وليست الاستنتاجات التحليلية التي تقوم على ربط الأحداث سياسياً.

في المجمل، يبقى “داعش ـ خراسان” الذي تبني عملية موسكو علناً، وغيره من تنظيمات الارهاب الداعشية خطراً كبيراً، سواء ارتكب جرائمه وفق أجندة أيديولوجية خاصة، أو لدوافع أخرى، وعلى العالم أن ينتبه لتحذيرات أخرى تطلق في خضم أزمات عديدة من تنامي الإرهاب واحتمالات ظهور أجيال جديدة من الإرهابيين أكثر دموية وأشد عنفاً.

Back to top button