الحوار “الصامت” بين طهران وواشنطن
بقلم: د. سالم الكتبي
النشرة الدولية –
الحديث عن تبادل الرسائل بشكل غير مباشر والتفاهم خلف الكواليس ليس أمراً طارئاً في العلاقات الإيرانية ـ الأميركية، وفي هذا الإطار يمكن فهم توقف الفصائل المسلحة الموالية لإيران في العراق عن مهاجمة المصالح الأميركية في المنطقة، بعد أن هاجموا القوات الأميركية لنحو 170 مرة على الأقل منذ بدء الحرب في غزة بحسب تصريحات أميركية.
هناك تقارير إعلامية تشير إلى توقف وكلاء إيران عن مهاجمة المصالح الأميركية بعد زيارة قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري، إسماعيل قاآني لبغداد، حيث نقلت التقارير عن مصادر عراقية وإيرانية إن الزيارة أدت إلى توقف الهجمات بعد لقاء قاآني ممثلي عدة فصائل مسلحة في مطار بغداد يوم التاسع والعشرين من يناير الماضي، بعد يومين من اتهام واشنطن لهذه الفصائل بالوقوف وراء مقتل ثلاثة جنود أميركيين في موقع البرج العسكري بالأردن.
ومنذ الرابع من فبراير الماضي، لم تقع هجمات على القوات الأميركية في العراق وسوريا، مقارنة مع أكثر من 20 هجوما في الأسبوعين السابقين لزيارة قائد فيلق القدس للعراق. وهذه الزيارة لم توقف فقط هجمات وكلاء إيران، بل أوقفت أيضاً الرد الأميركي على مقتل الجنود الثلاثة، حيث اكتفت الولايات المتحدة بقصف أهداف في منشآت بسوريا والعراق قيل أنها تابعة/ يستخدمها الحرس الثوري الإيراني، وبعدها لم يستمر الرد الأميركي كما قال الرئيس بايدن في تصريحه وقتذاك “”ردنا بدأ اليوم..وسوف يستمر في الأوقات والأماكن التي نختارها”.
في قراءة هذا المشهد الذي غاب وسط زحام الأحداث المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط، وفي قطاع غزة تحديداً، يمكن الإشارة إلى نقاط عدة أولها أن إيران تمتلك سيطرة كاملة على وكلائها الإرهابيين المنتشرين في العراق واليمن ولبنان وسوريا والأراضي الفلسطينية، وأن حديثها المتكرر عن عدم السيطرة على قرار هذه الفصائل ليس سوى نوع من التنصل التكتيكي من المسؤولية والاكتفاء بحصد نتائج الأفعال.
تنفي إيران مراراً وتكراراً سيطرتها المباشر على قرار هذه الفصائل، وتقول أن ما تسميه شبكة “المقاومة” في المنطقة يمكن مقارنتها بمعاهدة الناتو” بحسب مندوب إيران لدى الأمم المتحدة سعيد إيرواني، الذي قال أيضاً “لدينا بعض التنسيق والتعاون والتشاور وربما بعض التمويل”، ولكن هذه الفصائل “لديها خياراتها الخاصة عندما يتعلق الأمر بالأنشطة العسكرية”، ولكن زيارة قاآني التي أوقفت هجمات الفصائل تعد علامة فارقة على حدود التأثير الإيراني في قرار هولاء الوكلاء، وأن المسألة تتعدى فكرة التنسيق لتطال السيطرة الإيرانية التامة على قرارات هذه الفصائل، حيث تم إخراج المشهد بصورة سريعة لم يعكس فقط حدود التأثير الواضح والقوي، ولكنها انطوى أيضاً على دلالة قوية بشأن رغبة طهران في وقف أي اندفاع أميركي قد يؤدي إلى وقوع مواجهة مباشرة بين الطرفين، أو على الأقل إحراج إيران بشكل بالغ واضطرارها إلى التصعيد وهو أمر لا يرغب فيه النظام الإيراني بشكل قطعي، ويبدو أن طهران قد تعلمت الدرس من مقتل الجنرال سليماني، في عملية أميركية لم يتسن لهم الرد عليها بالشكل الذي يناسب ثقل الرجل الثاني في النظام الإيراني بحسب التراتبية القيادية الفعلية للنظام، فآثرت تجنب الصدام واستفزاز الولايات المتحدة في وقت حساس للغاية بالنسبة للبيت الأبيض.
بلاشك أن إيران وجهت الفصائل بوقف الهجمات ضد القوات الأميركية ليس فقط تجنباً لما سبق، ولكن أيضاً لسبب مهم للغاية ـ من وجهة نظري ـ وهو الحفاظ على هذه الفصائل، وتجنيبها ضربات أميركية أقوى قد تدمر بنيتها التحتية العسكرية وقدراتها التسليحية بشكل كبير، وهو ما يعني بالتبعية القضاء على نفوذ إيران في العراق وسوريا، فضلاً عن ضياع استثمارات إيرانية بمليارات الدولارات طيلة نحو عقدين، حيث بات يتعين على طهران إدارة الصراع بالوكالة بشكل أكثر عقلانية في ظل تعرض وكلاء آخرين مثل حركة “حماس” الإرهابية لاحتمالات تنهي وجودهم كرقم فاعل في معادلات الصراع الشرق أوسطي لفترة ليست قليلة وربما نهائياً.
الأرجح أيضاً أن توجيه إيران لوكلائها بالتهدئة يرتبط إلى حد ما برغبة النظام الإيراني في توفير الأجواء الملائمة لإتمام المفاوضات بين بغداد وواشنطن بشأن انسحاب القوات الأميركية من العراق، وهو الهدف الأصيل لمجمل السلوكيات الإيرانية في العراق تحديداً، كما أنها التهدئة تصب في خانة الاستجابة لرغبة الحكومة العراقية في كبح جماح الفصائل الموالية لإيران، وبالتالي فإن موقف إيران يصيب أكثر من هدف بتوجيه واحد، لاسيما أن هجمات الفصائل ربما تكون قد عززت موقف الحكومة العراقية التي تصر على مطلبها الخاص بسحب القوات الأميركية من العراق وعدم تحويل البلاد إلى ساحة للحرب بالوكالة، حيث استؤنفت المفاوضات بين بغداد وواشنطن حول انهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بعد أيام قلائل من التهدئة التي وجه بها قاآني ونفذتها الفصائل الشيعية.
الخلاصة إذاً أن التصعيد العسكري لوكلاء إيران في العراق، والذي رفع الشعار المخادع والكاذب في الدفاع عن الفلسطنيين والعمل ضمن ما يوصف بمحور المقاومة، والذي كان في حقيقة الأمر جزءاً من استراتيجية الضغط الإيراني غير المباشر باتجاه سحب القوات الأميركية من العراق وتحقيق هدف حيوي طال انتظاره في هذا الشأن، لذلك فإن من المتوقع أن يستمر الهدوء التكتيكي الحالي حتى تتمخض المحادثات بين بغداد وواشنطن، والتي يتوقع أن تستغرق شهوراً عن نتائج بهذا الشأن، ما لم يطرأ متغير جديد يدفع إيران إلى تعديل موقفها واستئناف الضغط على الجانب الأميركي عبر وكلائها العراقيين. وفي مجمل الأحوال فإن الظروف الاقليمية تمضي في مصلحة إيران التي نجحت ـ بحسب تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية ـ في رفع نسب تخصيب اليورانيوم ليتجاوز المستوى المرخص به 27 مرة. في خضم انشغال دولي بحرب غزة، فضلاً عن إحداث إرباك اقليمي يمكن استغلالها لتعزيز نفوذها، وتعطيل لمسار تطبيع العلاقات والسلام بين إسرائيل والدول العربية، وجميعها نقاط تصب في مصلحة إيران ولو على المدى القريب.