أحلام طهران ودماء الفلسطينيين
بقلم: د. سالم الكتبي

النشرة الدولية  –

بعد نحو ستة أشهر من الحرب التي أشعلتها حركة حماس الإرهابية بعد الهجوم الدموي والإرهابي في السابع من أكتوبر 2023، حيث يبدو واضحاً حجم الدور الإيراني في هذه الحرب، وتبدو أهداف إيران أكثر وضوحا وباعترافها وليس من قبيل التحليل والاستنتاجات التي لم تكن تفتقر إلى أدلة وبراهين، ولكن الاعتراف ـ كما يقال ـ هو سيد الأدلة في جميع الأحوال.

في خطابه بمناسبة رأس السنة الإيرانية، قال المرشد الإيراني علي خامنئي إن “صبر الشعب الفلسطيني وحركة “حماس” وكافة الفصائل في لبنان والعراق دمر الأمريكيين وحساباتهم في المنطقة”، واستطرد خامنئي قائلا: “تشكيل جبهة المقاومة هو لمواجهة الظلم المستمر للمجرمين الصهاينة”، فـ “المقاومة أزاحت الستار عن قدراتها وأربكت حسابات العدو..قوة المقاومة أربكت الحسابات الأمريكية الخاطئة بشأن المنطقة”.

هذا هو الهدف الإيراني الحقيقي في هذه الحرب، إرباك الحسابات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وإجبار الولايات المتحدة على الاعتراف بنفوذ إيران وأذرعها الميلشياوية الإرهابية، فالهدف ليس تحرير القدس ولا فلسطين كما يدعي قادة الميلشيات الإرهابية أو يروجون في خطابهم الدعائي، وإلا لكان المرشد الأعلى قد تطرق إلى هذا الهدف في خطابه وجاهر به وهو يدرك تماماً أنه هدف أو شعار سيلقى تجاوباً ويحقق لإيران تعاطفاً واسعاً في العالمين العربي والإسلامي، ولكنه لم يأت عليه لأن الأمر كله يتعلق باثبات قدرة “المقاومة” التي تمولها وتسلحها إيران، وبلورة حقائق استراتيجية جديدة بانتظار وقت الجلوس على الطاولة للتفاوض مع الولايات المتحدة والقوى الغربية على تقاسم النفوذ والمصالح في الشرق الأوسط وفقاً للتصورات الإيرانية.

بالتأكيد أن النظام الإيراني لاتشغله هذه الدماء التي سالت ولا تزال في قطاع غزة، ولكن تشغله نتائج المواجهة بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس الإرهابية وأداء الحركة باعتبارها أحد أذرع محور “المقاومة” لقياس جدوى “الاستثمار” الإيراني في هذا الذراع ومدى تحقيقه للأهداف المرسومة له، وصولاً لهدف إيران النهائي وهو محاولة التأثير في التفاعلات الاقليمية والدولية بما يعكس قوتها ونفوذها ويؤهلها لكسب المزيد من ثقة حلفائها الدوليين مثل الصين وروسيا.

رؤية إيران بشأن التأثير في تفاعلات العلاقات الدولية ليست جديدة ولا عابرة، وقد سبق للمرشد الأعلى خامنئي أن حدد ثلاثة ملامح لتغير النظام العالمي، وهي انزواء الولايات المتحدة وانتقال القوة إلى آسيا وانتشار فكر المقاومة وتوسع جبهتها، وهي يرى أن العالم يمر بما يعرف في النظريات السياسية بفترة انتقال القوة، حيث تتشكل ملامح نظام دولي جديد يريد أن يؤثر فيها ويلعب دوراً مهماً في تحديد معالمها بما يحقق مصالحه الاستراتيجية.

انتشار فكر “المقاومة” وتوسع جبهتها وفق رؤية خامنئي يمر الآن بمرحلة عنق زجاجة مهمة سواء في قطاع غزة أو اليمن أو في الجنوب اللبناني، حيث تشغل أذرع إيران الجبهات الثلاث بمواجهات مع إسرائيل والولايات المتحدة، للرد على محاولات توسيع دائرة تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية وإفشال الجهود الرامية لنشر السلام والاستقرار، فيما يعد ضمنياً عزلاً لمحور التشدد والتطرف، الذي تقوده إيران تحت مسمى “محور المقاومة”، وتتصور طهران أن اللحظة الراهنة هي لحظة فارقة تمثل عنق زجاجة تحسم الموقف في الصراع الاستراتيجي بين المحورين (الاعتدال والتطرف) لذلك فإنها تدفع بكل قوتها من وراء الستار آملة أن تربح الحرب الدائرة بالوكالة لتعلن رسمياً ما تصفه ببداية عصر ما بعد أمريكا في منطقة الشرق الأوسط، وهي اللحظة التي انتظرتها طهران طويلاً.

ما يدور في البحر الأحمر من تهديدات الحوثيين وما تنفذه الميلشيات الطائفية في العراق، وحزب الله اللبناني وكذلك حركتي حماس الإرهابية وحركة “الجهاد الإسلامي” الارهابية يندرج ضمن صراعات إيران بالوكالة، فجميعها فصائل “المقاومة” التي تؤكد طهران أنها “العمق الاستراتيجي” للنظام الإيراني، وهو ما أكده خامنئي نفسه خلال لقاء مع أسرة قاسم سليماني، وهذا الكلام يعني أن هذه الفصائل الميلشياوية الإرهابية تعمل كحائط صد دفاعي متقدم عن النظام الإيراني، وبالتالي فهي تخوض حروباً بالوكالة نيابة عنه، حتى وإن تلاقت بعض أهداف الطرفين كما في حالة حركة حماس الإرهابية، التي لا تضع ضمن شروطها لوقف الحرب على سبيل المثال قيام دولة فلسطينية بل تتحدث عن شروط تعيد الوضع كما كان عليه قبل الهجوم الارهابي في السابع من أكتوبر مع الافراج عن المسجونين، ما يعني أن كل هذه الدماء التي سالت على أرض غزة للأبرياء والأطفال كانت ثمناً بخسا وعبثيا للبحث عن صفقة للإفراج عن مسجونين!

يعتقد بعض المطلعين على فكر النظام الإيراني أن الصبر الذي يمتلكه النظام الإيراني في تحقيق أهدافه يفسر الكثير مما يحدث وأن توطيد أركان المشروع التوسعي الإيراني وترسيخ قواعده بموازاة تقويض مشروعات الخصوم الاستراتيجيين مثل محاولة افشال عملية تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، هو رد إيراني على أحداث إيرانية كبرى مثل مقتل الجنرال قاسم سليماني وغير ذلك، وأن قادة النظام في طهران لا يفكرون بتسرع يدفعهم إلى تعريض نظامهم للخطر من خلال شن عمليات عسكرية تستدعي ضربات انتقامية أمريكية ـ إسرائيلية، ولكن التفكير الاستراتيجي الإيراني الذي يتسم بالصبر الشديد (ارتباطاً بموروث تاريخي تجسده حياكة السجاد الإيراني اليدوي الشهير) ينصب على تحقيق الأهداف بشكل هادىء للغاية ومن خلال طرق غير مباشرة أو بالأحرى أذرع ووكلاء مثلما هو حاصل، حيث يراكم النظام الإيراني مصادر القوة ويردع خصومه بشكل هادىء، حيث تشير التقارير إلى تطور القدرات النووية الإيرانية بشكل متسارع خلال فترة انشغال الولايات المتحدة وإسرائيل بالحرب في غزة والتهديدات في البحر الأحمر!.

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى