ماكرون والأزمة الأوكرانية
د. سالم الكتبي

النشرة الدولية

ايلاف –

رغم إجماع الساسة الفرنسيين على أن النزاع في أوكرانيا لا يهدد مصالح فرنسا، ووجود نوع من الاعتراف المتنامي بالواقع القائل بعجز أوكرانيا عن الانتصار عسكرياً من دون مشاركة “الناتو”، فإن التقارير بشأن احتمالية إرسال قوات فرنسية إلى اوكرانيا لم تتوقف. بعض الساسة الفرنسيين مثل ماري لوبان يرى أن موقف الرئيس ماكرون يرتبط بالانتخابات، ولكنه “لا يحب فعل ذلك” (أي إرسال قوات لأوكرانيا)، بينما يشدد ماكرون نفسه على أنه لا توجد أمام فرنسا “أي خطوط حمراء” في مسألة دعم أوكرانيا.

في بيان صادر منذ فترة عن المكتب الصحفي لجهاز المخابرات الروسية الخارجية، نقلاً عن مدير المخابرات الخارجية، سيرغي ناريشكين، أن موسكو لديها معلومات تفيد بأن فرنسا تقوم بإعداد وحدة عسكرية يصل عددها مبدئياً إلى نحو ألفي شخص لإرسالها إلى أوكرانيا، وأكد أن الوحدة الفرنسية “ستصبح هدفا مشروعا ذا أولوية لهجمات القوات المسلحة الروسية. وهذا يعني أنها ستواجه مصير جميع الفرنسيين الذين جاءوا إلى أراضي العالم الروسي بالسيف”، ووفقا للمعلومات التي صرح بها ناريشكين فإن عسكريين فرنسيين موجودون بالفعل بشكل غير رسمي في أوكرانيا، وتكبدوا خسائر على يد القوات الروسية. من جانبه صرح رئيس أركان القوات البرية الفرنسية الجنرال بيير شيل بأن الجيش الفرنسي يستعد لـ”أصعب الصراعات”، وتحدثت تقارير إعلامية عن أن فرنسا تعمل على حشد تحالف من الدول المستعدة لاحتمال إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا، فيما أفادت صحيفة لوموند بأن فرنسا قلقة من “ضعف” الجيش الأوكراني، وتدرس خيار إرسال قوات عسكرية لأوكرانيا، لكنها تخشى من التصعيد.

رسمياً، نفت وزارة الدفاع الفرنسية صحة المعلومات التي تحدثت عن وجود قوات فرنسية في أوكرانيا، واستعداد باريس لإرسال وحدة عسكرية من ألفي شخص إلى أوكرانيا، واعتبرتها “جزء من الاستخدام المنهجي للمعلومات المضللة للرأي العام”. وفي تصريح مهم للغاية، شدد المستشار الألماني أولاف شولتز أنه لن يتم إرسال “أي جندي” إلى أوكرانيا سواء من الدول الأوروبية أو من الحلف الأطلسي، موضحا أن “ما تم الاتفاق عليه منذ البداية ينطبق أيضا على المستقبل، وهو أنه لن تكون هناك قوات على الأراضي الأوكرانية مرسلة من الدول الأوروبية أو دول الناتو”.

من الناحية التحليلية، يرى خبراء أن فرنسا ليس لديها قوات كافية لمواجهة الجيش الروسي في صراع مفتوح أو طويل الأمد في أوكرانيا، وأن “تلك حقيقة لا تقبل الجدل”، بل يرى خبراء أنه لا توجد دولة اوروبية تمتلك بمفردها القوة العسكرية الكافية لمواجهة روسيا بشكل مباشر، وأن التفوق العسكري الروسي لا يقبل النقاش. في ضوء ماسبق يبدو أي خيار لإرسال قوات دولة أوروبية بمفردها لأوكرانيا خيار انتحاري كون نتائجه معروفة مسبقاً في ظل تأكيد روسيا بأن وجود قوات لـ”الناتو” في منطقة النزاع مع أوكرانيا سيعني إعلان الحرب ضد روسيا.

السؤال الآن: لماذا تصر روسيا على تسريب تقارير عن قوات فرنسية في أوكرانيا وخطط لإرسال نحو ألفي جندي للقتال؟ المؤكد برأيي أن فرنسا لن تغامر بإرسال أي قوات ما لم تحصل على ضوء أخضر أمريكي، أو أن يحدث توافق بين الثلاثي الأوروبي الأكثر تأثيراً (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) وهذا الأمر مستبعد تماماً في ظل المعطيات الاستراتيجية الخاصة بعدم موافقة البيت الأبيض على ذلك ولاسيما في ظل اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية حيث لا مجال للمناورة أو المغامرة، فضلاً عن أن أوروبا نفسها لاتستطيع تحمل عبء مواجهة روسيا عسكرياً بشكل منفرد، ناهيك عن أن كارثية قرار كهذا على المستوى السياسي كونه قد يكون شهادة وفاة للاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي معاً، حيث يرفض معظم الأعضاء إرسال قوات أو إحداث مواجهة مباشرة مع روسيا.

تصريحات المسؤول الاستخباري الروسي بشأن وجود قوات فرنسية أو الاستعداد لإرسال قوات لأوكرانيا قد تستهدف تعظيم الضغوط الفرنسية الداخلية على الرئيس ماكرون، بمعنى أنها قد تكون خطوة وقائية لمنع أي خطط فرنسية لحشد الجهود الأوروبية ليس فقط لإرسال قوات بل لزيادة الدعم العسكري لأوكرانيا، بمعنى أن تسريب هذه الأفكار قد يعزز رفض الرأي العام الأوروبي للحرب نفسها وينبه للخطر القادم بشأن المواجهة مع روسيا، ويدفع باتجاه البحث عن حلول ومخارج تفاوضية، فضلاً عن تأثير هذه التسريبات الروسية على اتجاهات الرأي العام الفرنسي الذي يرفض في غالبيته التوجه نحو أي خطوة قد تقود إلى حرب مع روسيا.

روسيا إذن تلعب ورقة تصريحات ماكرون ضده وتوظفها في إطار حشد الرأي العام الأوروبي رفضاً لاستمرار الحرب والقبول بالأمر الواقع الذي يصب في مصلحة روسيا ميدانياً، حيث تقدمت القوات الروسية ووضعت الجيش الأوكراني في حالة الدفاع، وهذا الوضع الاستراتيجي يمكن أن يكون مثالياً لانهاء الحرب لمصلحة روسيا ليس فقط على الصعيد العسكري، ولكن أيضاً على المستوى السياسي، حيث سينعكس الوضع الميداني القتالي حتماً على الشروط التفاوضية التي لا تصب في مصلحة الغرب في ظل المعطيات الراهنة.

سعي روسيا إلى استغلال نتائج تقدم قواتها في أوكرانيا وترجمة ذلك إلى مكاسب سياسية، هو أمر وضع الغرب في مأزق لأن الأمر لا يتعلق فقط بفقدان أراض أوكرانية وكل ما يترتب على انتصار روسيا ميدانيا من نتائج استراتيجية في المديين القريب والبعيد، ولكنه قد يتسبب كذلك في خسائر سياسية انتخابية للقادة الأوروبيين الذين روجوا لفكرة هزيمة روسيا عسكرياً.

الحاصل أيضاً ينطوي على تنافس روسي ـ غربي حول سبل انهاء حرب أوكرانيا، لاسيما أن الغرب لا يريد الاعتراف بنتائج الصراع الأوكراني ميدانياً، وهناك تقارير تتحدث عن توجه أمريكي للبحث عن حلول وفق صيغة لا غالب ولا مغلوب وتجميد الصراع كنموذج الكوريتين، أي في إطار هدنة لا ترقى إلى تسوية سياسية نهائية.

انتقال ماكرون من داعية للحل السلمي والتفاوضي في الأزمة الأوكرانية إلى التلويح بإرسال قوات فرنسية، ليس بعيد عن التأثيرات الانتخابية، وهو من يعاني تراجع شعبيته، وينتظر حزبه انتخابات مهمة للبرلمان الأوروبي في مايو، حيث تشير استطلاع الرأي إلى تقدم حزب التجمع الوطني المعارض بقيادة مارين لوبان، ويبدو أن روسيا لم تعزز مواقفها في ساحة القتال في أوكرانيا فحسب بل في الساحة السياسية أيضاً حيث انتهت من تجديد ولاية الرئيس بوتين فيما ينتظر خصومها انتخابات مهمة يبدو موقفهم فيها متأرجحاً.

زر الذهاب إلى الأعلى