بوتين يقضي على الحلم الأمريكي بالقرم
بقلم: اكرم كمال سريوي
النشرة الدولية –
الثائر –
لم يتحدث أحد عن السبب الحقيقي للحرب، التي اندلعت في 2022/2/24 في أوكرانيا.
حاول الغرب تصويرها بأنها دفاعٌ عن سيادة أوكرانيا، وحمايةٌ لدول أوروبا من الأطماع الروسية. وقالوا أيضاً أنها دفاع عن الديمقراطية الغربية، في مواجهة دكتاتورية روسيا.
أما روسيا فقالت إن العملية العسكرية في أوكرانيا، هي لحماية سكان الدونباس والناطقين باللغة الروسية، من الاضطهاد والتطهير العرقي، الذي يمارسه بحقهم نظام كييف.
لم يُفصح لا الغرب ولا روسيا عن السبب الحقيقي لهذه الحرب .
القرم وطن الجمال والخصب، وقلعة البحر الأسود، وبوابة روسيا إلى المياه الدافئة والعالم، التي طمع بها البريطانيون والفرنسيون والالمان والأميركيون.
استولت عليها روسيا عام 1783 وتنازعت السيطرة عليها مع تركيا لسنوات، حتى استقر لها الأمر بها نهائياً في عام 1874.
منذ ذاك التاريخ تحولت القرم بالنسبة لروسيا إلى مصلحة استراتيجية، وحصن الدفاع الأول عن مصالح روسيا.
روى الكاتب والصحفي المصري الدكتور سامي عمارة في كتابه “بوتين صراع الثروة والسلطة”، الصادر عن دار نهضة مصر عام 2016- ملابسات محاولات واشنطن لشراء شبه جزيرة القرم، وقال أن الهدف من ذلك كان لتحويلها إلى وطن قومي لليهود، بدلا من فلسطين، في عشرينيات القرن الماضي.
كما تطرّق إلى هذا الموضوع الكاتب الروسي اليهودي الشهير ليونيد مليتشين، في كتابه الصادر عام 2005، بعنوان “لماذا أنشأ ستالين إسرائيل؟” معتبراً أن ذلك حصل بهدف الحفاظ على القرم ومنع إقامة دولة يهودية فيها.
لقد وقع السيدان عمارة ومليتشين في خطأ هام، عندما اعتبرا أن كل ذلك كان من أجل إقامة وطن قومي لليهود في القرم. وتجاهلا أن هناك مصالح استراتيجية أكثر أهمية للولايات المتحدة الأمريكية، في حال السيطرة على القرم.
وأن تلك المشاريع الأمريكية سابقة لفكرة إنشاء وطن قومي لليهود في القرم، أو فلسطين. وأن استخدام اليهود كان مجرد وسيلة لتحقيق الغايات والأهداف الكبرى، لسيطرة الولايات المتحدة الأميركية على شبه الجزيرة، وبسط سيادتها على منطقة البحر الاسود.
كما كان هدف وعد بلفور لليهود في فلسطين، هو السيطرة البريطانية على منطقة الشرق الأوسط.
عندما نجحت الثورة الشيوعية في روسيا وازاحت القيصر عام 1917، كانت البلاد منهكة جراء الحرب العالمية الأولى، وغارقة في الديون. لكن الثورة رفضت الاعتراف بأي دين على روسيا، وبقيت القضية عالقة حتى عام 1996، عندما عادت روسيا يلتسين، وسددت مبلغ حوالي 400 مليون دولار، لحاملي تلك السندات القديمة، من الاوروبيين.
بعد الثورة استمرت المعارك داخل روسيا، بين البلاشفة والبيض (جماعة القيصر)، وتدخّلت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الامريكية إلى جانب البيض، وأرسلوا قواتهم إلى مورمانسك، كما أنزلت أمريكا فوجين في الفلاديفاستوك، ولكن البلاشفة نجحوا وقضوا على البيض، ثم طردوا القوات الاجنبية، وجلى الأميركيون عن روسيا، في الأول من نيسان عام 1920.
كانت الولايات المتحدة الامريكية تحلم بتكرار تجربة ألاسكا، التي اشترتها عام 1867 من روسيا، بمبلغ 7,2 مليون دولار، ولكن بسبب قطع العلاقات الدبلوماسية، مع الثورة الشيوعية، كان تكرار الأمر مستحيلاً.
داهمت أزمة مالية قاسية السلطة السوفيتية الناشئة، مما اضطر زعيمها فلاديمير لينين، للبحث عن مصادر للتمويل، فقد كان يحاول إعادة بناء الدولة، بعد ما حل بها من خراب ودمار، قبل و إبان سنوات الحرب الأهلية، التي اندلعت عقب ثورة أكتوبر.
استغلت الولايات المتحدة الامريكية الأمر، وأوعزت إلى اللجنة اليهودية الأمريكية (جونيت) -التي تأسست عام 1914 بشكل خاص لتقديم الدعم إلى يهود شرق أوروبا- في عام 1922، بإقناع لينين بجدوى شراء صكوك مالية، تُقدر بـ20 مليون دولار، بنسبة فائدة 5% ، على أن تُسدد لاحقاً بمقدار مليون ونصف المليون دولار سنويا، على مدى 10 سنوات، مقابل رهن 375 ألف هكتار من أراضي القرم، كضمان عقاري، تستولي عليها اللجنة في حال تعثر السوفيات عن سداد الدين.
تدفق آلاف اليهود على القرم، وظهرت المزارع التعاونية التي بلغ عددها 186 مزرعة، ومعها بدأ صرف أول القروض المالية، التي كان التقاعس في سدادها يعني أحقية أصحاب الصكوك، الذين بلغ عددهم 200 شخص، في ملكية أراضي القرم.
كشفت الوثائق المحفوظة لدى جهاز أمن الدولة كي جي بي، والتي عرضها ميخائيل بولتورانين، أول وزير إعلام للرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسن (والذي كان رئيسا للجنة تقصي الحقائق بخصوص مؤامرة القرم)، أن القصة لها فصول كثيرة، ضاربة في التاريخ الروسي.
وكشف بولتورانين أن الرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت وزوجته إليانورا، والمليونير روكفلر، والبورجوازي المعروف مارشال، كانوا من بين ملاك هذه الصكوك.
قدمت اللجنة اليهودية، إلى ستالين عدة عروض للتخلّص من الدين، حتى أنهم عرضوا عليه، تقديم المزيد من المبالغ المالية، مقابل نقل عدد أكبر من اليهود إلى القرم.
لكن ستالين سرعان ما اكتشف أن أمريكا تقف خلف اللجنة اليهودية، وأن لديها أهدافاً جيواستراتيجية، أبعد بكثير من انشاء جمهورية يهودية اشتراكية سوفياتية في القرم.
فأمر ستالين بدايةً من سنة 1928 بتنظيم هجرات جماعية لليهود، نحو إحدى المناطق السوفيتية الحدودية مع الصين، والقريبة من نهر آمور، وأقام عام 1934 مقاطعة بغالبية يهودية، عاصمتها بيروبيجان.
الهدف الأمريكي كان وما يزال السيطرة على القرم، وعزل روسيا عن المياه الدافئة.
في مؤتمر يالطا فاتح روزفلت ستالين بالدولة اليهودية في القرم، ثم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وشعور الولايات المتحدة الامريكية بفائض القوة، إثر امتلاكها واستخدامها للسلاح النووي عام 1945، اتصل ترومان بستالين، طالباً منه السماح بإقامة قاعدة عسكرية أمريكية في القرم.
لكن ستالين رد بأن هذا الطلب يُقدّم إلى الدول المهزومة، وليس إلى الدولة المنتصرة في الحرب.
بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، عاد الحلم الأمريكي بالقرم إلى الظهور، لكن المشكلة كانت أن أمريكا أرادت استخدام الأسلوب الناعم، وعدم احداث نقزة لروسيا، وأعطت الأولوية لضم دول شرق أوروبا إلى الناتو، قبل البدء بتحجيم وتطويق روسيا.
لاحقاً اصطدمت أمريكا بالنظام الأوكراني الموالي لروسيا، والمرتبط معها بمعاهدة طويلة الأمد، تحافظ روسيا من خلالها على وجودها العسكري في قاعدة سفاستوبول حتى عام 2043.
بعد أن ثبتت الولايات المتحدة الامريكية أقدامها في دول أوروبا الشرقية والبلطيق على حدود روسيا، بدأت العمل على تقويض النظام الأوكراني، الذي كان قابلاً للتحلل، بسبب كثرة الفساد، وانهيار مؤسسات الدولة، وحالات الفقر.
فأحدثت ثورة عام 2014 ، تحت شعار نشر الديمقراطية، والمساعدة في الدخول إلى جنة الاتحاد الأوروبي.
اعتقد الأوكرانيون، أنه بمجرد دخولهم إلى الاتحاد الاوروبي، سينتقلون من الجحيم إلى النعيم، والقوا بتهمة العرقلة والتأخير في ذلك على روسيا، التي عارضت ارتباط أوكرانيا باتفاقية التجارة مع الاتحاد الأوروبي.
لم يكن الأوكران يعلمون، أنهم سيقعون ضحية التنافس الأمريكي الروسي على بلادهم، ومصالح الغرب والشرق الجيواستراتيجية.
نجحت الثورة في كييف، وتمت تنحية يانوكوفيتش، الذي رفع شعار عدم الانحياز، ورفض الانضمام الى الناتو. وأول مطالب الثورة كانت إنهاء مفعول الاتفاقية العسكرية مع روسيا، حول قاعدة سفاستوبول، وطلبت من روسيا مغادرتها فوراً.
رد بوتين بإجراء استفتاء في شبه الجزيرة، التي تقطنها غالبية روسية، ثم أعلن ضمها وإعادتها إلى روسيا.
ردت أوكرانيا بإجراءات استفزت الأقلية الروسية، خاصة في الدونباس، وتم الغاء اللغة الروسية كلغة ثانية رسمية في البلاد، فاندلعت الحرب. ودعم الغرب الجيش الأوكراني، في حين دعمت روسيا قوات الدونباس.
توصلت الاطراف المتحاربة في سبتمبر 2014 إلى اتفاق في مينسك، لكن بعد وصول زيلينسكي إلى الحكم، أراد تغيير قواعد اللعبة.
في آذار 2021 وافق الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، على استراتيجية الأمن العسكري لبلاده، الهادفة إلى تحرير شبه جزيرة القرم.
أثارت هذه الخطوة قلق روسيا، خاصة أن أوكرانيا كانت قد تقدمت عام 2017 بطلب للانضمام إلى حلف الناتو.
في نهاية عام 2021 وبداية 2022 فشلت المفاوضات حول تطبيق اتفاق مينسك، الذي نص على منح جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك حكماً ذاتياً، وتعديل الدستور الاوكراني.
وقالت روسيا أن أوكرانيا حشدت 150 الف جندي للهجوم على الدونباس، ثم بدأت روسيا عملية عسكرية واسعة النطاق على أوكرانيا، في 24 شباط 2022.
نفّذت روسيا هجوماً خداعياً نحو العاصمة كييف، سرعان ما تبين أنه لحرف الانظار عن السيطرة على أربع مقاطعات في الشرق، هي لوغانسك، ودونيتسك، وزاباروجيا ، وخيرسون.
ونجحت روسيا في وصل القرم بروسيا عن طريق البر.
آراد زيلينسكي في بداية الحرب إجراء مفاوضات مع بوتين، وطلب من الرئيس الفرنسي ماكرون أن يتوسط بذلك، لكن في مساء ذلك اليوم، تلقى زيلينسكي اتصالاً من الرئيس الامريكي جو بايدن، وعده بتقديم الدعم العسكري لهزيمة روسيا.
يقول جنرالات في البنتاغون، أن تقييمهم للجيش الروسي كان خاطئاً، فهم اعتقدوا أن روسيا ستنهار اقتصادياً، تحت وطأة العقوبات الغربية، وسيفقد جيشها القدرة على الاستمرار في القتال. وراهنوا على المساعدات العسكرية لأوكرانيا، ودفعوها إلى شن هجوم مضاد، تكبّدت خلاله، معظم أسلحتها، إضافة إلى أكثر من نصف المعدات التي قدمها لها الناتو، وخسرت أكثر من مئة الف جندي، دون أن تحرز أي نتائج مهمة على الأرض.
قدّمت الدول الغربية دعماً كبيراً لأوكرانيا، فاق 150 مليار دولار.
والآن يقول البعض في أمريكا أن كل هذه الأموال ذهبت سُداً، وبدل أن تتسبب في هزيمة روسيا، جعلتها أقوى، واكتسب جيشها خبرة كبيرة في القتال، وجرّب وحدّث معظم أسلحته ووسائله القتالية، وبات الآن يتمتع بكفاءة عالية، وتفوقاً ملحوظاً، على الجيش الأوكراني، ومعظم جيوش أوروبا.
يقول قادة كبار في أمريكا، كلما استمر القتال يوماً، في أوكرانيا كلما حققت روسيا مزيداً من المكاسب على الأرض، وبات لديهم قناعة تامة، بأن هزيمة روسيا مستحيلة.
وبالنتيجة ربح بوتين هذه الحرب، بعد أن ضم أربع مقاطعات جديدة إلى روسيا، وقضى نهائياً على الحلم الأمريكي، بالسيطرة على شبه جزيرة القرم