أوقات حرجة في الشرق الأوسط
بقلم: د. سالم الكتبي
النشرة الدولية –
إيلاف –
لاشك أن التطورات المتسارعة التي تمر بها الأزمة في قطاع غزة تعكس صعوبة الوضع في منطقة الشرق الأوسط بأكمله، وسواء تم التوصل إلى صفقة بين دولة إسرائيل وحركة “حماس الإرهابية” أم لا فإن الاحتمالات جميعها تبقى مفتوحة، باعتبار أن “الصفقة” ليست نهاية للحرب ولا تدشن تاريخاً جديداً من الهدوء، بل ستكون على الأرجح فترة التقاط أنفاس وإعادة ترتيب الأوراق وتخلص طرفي الصراع معاً من ضغوط الداخل والخارج التي يتعرضان لها لوقف الحرب.
جوهر هذه الأزمة لا يتعلق بهذا النطاق الجغرافي الضيق البالغ مساحته (365كم2) ولا بموقف الحركة الإرهابية، ولكنه يتعلق بالأساس بالصراعات الدائرة إقليمياً ودولياً، فليس سراً أن “حماس الإرهابية” في حقيقة الأمر تمثل أحد أهم أذرع إيران الميلشياوية، ولم تعد العلاقة بين الطرفين تخفى على أحد في ظل انكشاف الكثير من الأمور منذ بداية الحرب، وإن كان التوتر بين دولة إسرائيل وإيران قد تراجع مؤقتاً لاكتفاء الطرفين بإعادة هيكلة قواعد اللعبة وفقاً لما تم في الرسائل العسكرية المتبادلة، فإن المواجهة بينهما لم تنته ولا تزال تنتظر جولات أخرى وحروب بالوكالة وربما بشكل مباشر، ولا ننسى أن حسابات دولة إسرائيل مع حركات وتنظيمات أخرى موالية إيران لا تزال معلقّة، وأهمها حسم الأمر مع “حزب الله” اللبناني في ظل ارتهان أمن شمال دولة إسرائيل لقرارات الفصيل الإيراني “حزب الله”، ومواقفه المتناقضة التي يصعب التكهن بها في كثير من الأحيان سواء باتجاه التصعيد أو التهدئة.
التحدي السياسي/ التفاوضي الكبير والمعقد في آن واحد، الذي يواجه الأطراف الاقليمية والدولية المعنية بالتهدئة ووقف الحرب في قطاع غزة هو رأب الفجوة بين مطالب دولة إسرائيل واحتياجاتها الأمنية وشروط “حماس الإرهابية”، وهما أمران متعارضان بشكل كبير، بل هما متناقضان، لأن استعادة الشعور الإسرائيلي بالأمن ناهيك عن قوة الردع والهيبة العسكرية وغير ذلك، يعني ضرورة وأهمية هزيمة حماس الإرهابية والتي تعد فصيل إيراني متقدم والقضاء عليها وعلى قادتها المتطرفين بشكل كامل واستعادة الرهائن بالقوة كما وعدت حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في بدايات الأزمة، في حين أن شروط “حماس” تعني في جوهرها هزيمة دولة اسرائيل وانتصار الحركة من وجهة النظر الاستراتيجية، التي تشير إلى تباين معايير النصر والهزيمة بين الجيوش النظامية والتنظيمات الميليشياوية التي يتمحور النصر لديها حول فكرة “البقاء”، لذلك فإن النظر للأمر من زاوية واحدة قد لا يفضي إلى بناء رؤية موضوعية صائبة للأمور.
خسارة استراتيجية كبيرة أيضاً منيت بها دولة إسرائيل ليس لأنها تعرضت لأحد أسوأ المواجهات في تاريخها مع الإرهاب على مدى أشهر، ولكن لأن تماسكها الداخلي قد اهتز، سواء بسبب اهتزاز الثقة في أداء المؤسسات الأمنية والعسكرية، أو بسبب الخلافات السياسية العميقة داخل الشارع الإسرائيلي والتي تمحورت في أغلبها حول صفقة استعادة الأسرى، ويمكن أن يتضح ذلك كله حين تلوح لحظة الحساب الآتية لا محالة في الداخل الإسرائيلي، الذي سيجري تحقيقات شاملة ودقيقة حول كل ماجرى منذ الهجوم الدموي والإرهابي في السابع من أكتوبر لتحديد الأخطاء والمسؤوليات ومحاسبة المقصرين سواء عن الاخفاقات التي تسببت في مقتل حوالي 1200 شخص مدني معظمهم إسرائيليين وأسرى نحو 24 رهينة كان اختطافهم من قبل حركة حماس الإرهابية في غزة سبباً رئيسياً لإطالة أمد الحرب بكل ما أفرزه ذلك من تداعيات عسكرية واقتصادية وسياسية وأمنية.
أكثر ما يقلق في هذا الصراع الدامي مع الإرهاب هو حالة الاضطراب وعدم الاستقرار التي نشرها في معظم ربوع الشرق الأوسط، حيث لا يمكن انكار التأثير الجيوسياسي لحرب غزة على الاستقرار والأمن والسلام ولاسيما في الدول العربية القريبة من الصراع، والجدل الذي اشتعل مجدداً حول العلاقة بين المكونات الشعبية، الأثنية، والدينية في إطار الدولة الوطنية واستحضار شعارات وتحركات مشبوهة تدعمها تنظيمات إرهابية وفصائل إيرانية في إطار الضغط والتأثير على إستقرار أنظمة الحكم العربية، والأهم أن ذلك كله يتزامن مع سيطرة طاغية للإعلام الجديد الذي تقوده منصات وشبكات التواصل الإجتماعي للسوشال ميديا وانحسار هائل لدور وتأثير وسائل الاعلام التقليدية، بكل ما يعنيه ذلك من فقدان شبه تام لقدرة السيطرة على توجهات الشعوب والرأي العام ولاسيما بالنسبة للشباب، وصعوبة تشكيل الاتجاهات وتغيير القناعات وفق رؤى عقلانية رشيدة، وبات الزمام في معظم الأحوال بين رواد السوشيال ميديا، وقادة الرأي الذين ينتمى الكثير منهم للفكر المتشدد والمتطرف وأصحاب الأجندات الإيرانية والمشبوهة سواء على خلفية دينية أو قومية أو حتى انسانية.