مسار الرد والرد المعاكس: حرب إقليمية كاملة بعد التقسيط
بقلم: رفيق خوري

صاحب الرد واحد، وإن تعددت الجبهات التي تنطلق منها العمليات العسكرية عقاباً لإسرائيل على اغتيال فؤاد شكر في بيروت وإسماعيل هنية في طهران. ومن الصعب أن تخلو حساباته من الأخذ في الاعتبار موازين المصالح الدولية إلى جانب موازين القوى الإقليمية. فما تلتقي عليه واشنطن وموسكو وبكين، على رغم الخلافات، هو الدعوة إلى “خفض التصعيد” ومن ثم تخفيف الرد. وما تتفرد به أميركا هو النزول إلى الميدان في مسار متدرج من “الردع” إلى “الدفاع” عن إسرائيل. ولا شيء هادئاً على جبهة الحرب في غزة وجبهة الإسناد في الجنوب اللبناني في انتظار الرد. حكومة بنيامين نتنياهو ترتكب كل يوم مجزرة رهيبة في  حق المدنيين في غزة تستدعي رداً قوياً، بصرف النظر عن الاغتيال. وهي توسّع دائرة الاعتداءات على لبنان بأكثر مما يوسع “حزب الله” إطار العمليات العسكرية في الجليل والجولان. بل إن وزير الدفاع يوف غالانت يهدد إيران و”حزب الله” برد “غير مسبوق”، وسط تلويح الوزراء الأشد منه تطرفاً وجنوناً برد “غير تقليدي” في إشارة إلى ما تسميه تل أبيب “سلاح يوم القيامة”. وهكذا تقف المنطقة قلقة ومرتبكة في انتظار الرد والرد على الرد.

وما نراه ليس سباقاً بين مسار الرد العسكري ومسار المساعي الدبلوماسية. فالمساران يتحركان معاً. لكن مسار الرد مفتوح، والمسار الدبلوماسي متعثر ومحكوم بالدوران في حلقة مفرغة لأن التركيز على الهدنة في غزة مهمة مستحيلة بسبب موقف نتنياهو وحساباته الشخصية والسياسية. ولا أحد يعرف إن كانت المساعي الدبلوماسية ستقود إلى هدنة بعد الرد على الرد. فكثير يتوقفون على الإرادة الحقيقية الأميركية في الضغط الجدي على إسرائيل. وموقف “حماس” و”محور المقاومة” بقيادة إيران واضح ومعلن، وهو الاستعداد لهدنة وإعطاء وقف الحرب على غزة الأولوية في الحسابات.

وهناك من يراهن على مزيد من العنف لكسر حلقة العنف والتفاوض على صفقة أكبر من غزة. لكن هذا رهان خطر يمكن أن يقود إلى العكس، إذ يؤدي مزيد من العنف إلى مزيد بلا حدود. وأخطر ما يحدث هو أن ينطبق على الوضع شيء يشبه المبدأ الماركسي الشهير، “التراكم الكمي البطيء يؤدي إلى تحوّل كيفي سريع”. فالتراكم الكمي في حرب الاستنزاف التي صارت الواقع في حرب غزة، كما في حرب الإسناد عبر “وحدة الساحات” في لبنان والعراق واليمن، قد يصل إلى مرحلة التحول الكيفي في أية لحظة. والإمساك بالخيوط في لعبة الحرب ليس عملية مضمونة مئة في المئة.

ونحن عملياً في حرب إقليمية بالتقسيط. ولا شيء يحول في معركة مواقف راديكالية دون الذهاب بعيون مفتوحة إلى فخ الحرب الإقليمية الكاملة. لا المساعي الدبلوماسية التي يقوم بها الكبار حفاظاً على مصالحهم في مرحلة حساسة لا تحتمل حرباً كاملة في الشرق الأوسط، عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، وحسابات روسيا في حرب أوكرانيا بعد الهجوم الأوكراني على منطقة كورسك داخل الأرض الروسية، وانشغال الصين برد الحروب الاقتصادية الأميركية والأوروبية. ولا الضوابط الذاتية للقوى الإقليمية.

صحيح أن ما منع، حتى الآن، الانزلاق إلى حرب إقليمية كاملة أو حرب شاملة هو الخوف المتبادل من الدمار الواسع أكثر مما هو دبلوماسية العواصم الدولية المحذرة من العواقب. لكن الصحيح أيضاً أن إغراء الذهاب إلى حل الصراع قوي جداً في مرحلة المتغيرات الإستراتيجية التي قاد إليها التطور السريع في سلاحي الصواريخ والمسيرات. ولا قدرة على حل الصراع كما أكدت الحروب العربية-الإسرائيلية. أقصى الممكن هو إدارة الصراع بأقل الأضرار الممكنة، بصرف النظر عن عاملين جديدين. أولهما انكشاف نقاط الضعف في قوة إسرائيل. وثانيهما تسجيل نقاط قوة لـ”محور المقاومة” عبر مواجهة إسرائيل بنوع مختلف من المقاتلين.

ذلك أن الحديث الدائر حالياً حول “مرحلة جديدة حاسمة” في الصراع مع إسرائيل هو حديث مكرر منذ 1948. ففي كل تطور عسكري أو سياسي يقال، نحن في مرحلة حاسمة. وليس هناك حتى اليوم مرحلة حاسمة. مجرد تنويع في إدارة الأزمة. ما كان حروباً كلاسيكية صار حروباً شعبية. ومن يقاتل إسرائيل على الأرض هو فصائل غير دولية مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني. أما الأنظمة، فإنها في القصور، ولها اهتمامات أخرى تتعلق بالتنمية وبناء المستقبل وضمان الاستقرار. و”الميدان” الذي يقال إن الكلمة له ليس مجرد جهد عسكري وأمني من دون إدارة سياسية للحرب.

والسؤال الذي لا بد من جواب واضح عنه هو، ما هو الأفق السياسي  للقتال الدائر؟ الأفق السياسي الإسرائيلي معلن، وهو “القضاء على حماس” ورفض أية تسوية على أساس “حل الدولتين”. والأفق السياسي للمحور الذي تقوده إيران هو الحفاظ على “حماس” في غزة على الطريق إلى مراحل في الصراع من أجل فلسطين من البحر إلى النهر ضمن المشروع الإقليمي الإيراني. وهذه وصفة لصدام طويل لا يؤدي إلى حل، وسط جهود دولية عاجزة عن الوفاء بالوعود حول “حل الدولتين”. وهي جهود مرفوضة من حكومة نتنياهو التي تعمل لضم الضفة الغربية في إطار إسرائيل الكبرى، ومن “محور المقاومة” الذي يريد كل فلسطين التاريخية.

وما أكثر السيناريوهات حول مرحلة ما بعد حرب غزة بالنسبة إلى المنطقة كلها. وهي، حتى إشعار آخر، سيناريوهات مملوءة بالأحلام التي بعضها كوابيس، ولا تخلو من المبالغة في تغيير المعادلات. فهل كان غورباتشوف على حق حين قال للرئيس حافظ الأسد “إن استخدام القوة العسكرية وسيلة لحل الصراع في الشرق الأوسط فقد صدقيته”.

زر الذهاب إلى الأعلى