جنى مصطفى التل… الشطرنج عندما يصبح هويّة

النشرة الدولية –

روت جنى مصطفى التل، اللاعبة التي تسير بخطى واثقة نحو التألق أكثر وأكثر في الشطرنج، قصتها مع هذه اللعبة منذ بدء ممارستها لها وأسرار شغفها به وإصرارها على التمسك بها.

بدأت جنى مشوارها يافعة وأول بطولة شاركت بها نظمها نادي أمانة عمان في جبل اللويبدة وبعدها مباشرة شاركت في بطولة كنغز أكاديمي وحصلت على المركز الثالث كما شاركت في بطولات المملكة للشطرنج.

وعلى مدار العشر سنوات الماضية اضافة لمشاركتها بالأولمبياد العربي للشطرنج في المغرب ولبنان وعدة بطولات في الإمارات وفي صيف من هذا العام شاركت في بطولة الشطرنج في السويد.

تقول جنى::

لعبتُ الشطرنج منذ كنت طفلة. أذكر أننا كنا، يوما، نتمشى في المدينة الرياضية عندما مررنا بالصدفة أمام نادي الشطرنج الملكي.  يومها قرر أبي وأمي اكتشاف المكان، واستقبلنا مدرب الشطرنج أحمد سعادة الذي تتلمذت على يديه سنوات عديدة،ليقرر الصيف الماضي أنني أصبحت جاهزة للمشاركة٬ برفقة الوفد الأردني٬ في بطولة شطرنج دولية تقام في السويد.

عندما وصلت إلى السويد٬ شعرت بوطأة الغربة على الفور. كانت الأشجار الطويلة والمخيفة على طرفي الشارع الممتد لا تشبه أي شيء كنت قد رأيته من قبل. شعرت بالبرد وكأنه يخترق عظامي برغم أننا كنا في شهر آب. بدا كل شيء غريبًا وبعيدًا عن الألفة الدافئة في بلدي. كنت في السادسة عشرة من عمري، وكنت قد اعتدت على شوارع عمّان النابضة بالحياة، وعلى ضجيج الحياة المستمر من حولي. بدت السويد أكثر هدوءً، ولكن يبدو أن كل شيء هنا يحمل ثقلا أكبر. شعور غريب في مكان جميل جدا. كان الهواء صافياً، والشوارع نظيفة مرتبة للغاية، وبدا لي وكأن الجميع يعرفون مكانهم في هذه المدينة البعيدة عن بيتي.

لكن انا كنت أشعر بالضياع.اعتقدتُ انه الشعور بالوحدة. وقررت أن أركز تفكيري في البطولة التي أتيت للمشاركة بها. لقد لعبت الشطرنج لسنوات٬ وأعرف أنني سأشعر بالتحسن عندما تبدأ المنافسات، وأنني سأجد مكاني، أليس كذلك؟

لكن ما إن بدأت البطولة حتى شعرت وكأنني أدخل إلى عالم لا أنتمي إليه: طفل يرتدي ملابس والده.

ضمت البطولة لاعبي شطرنج من جميع أنحاء العالم. كان التنوع مذهلاً وكانت هناك بعض الأسماء الكبيرة، لاعبون يحملون تصنيفا دوليا متقدما يحركون قطعهم على الرقعة بدقة بالغة ودون عناء. كنتُ محاطًة بعقول لامعة، لم أستطع أن أرفع رأسي٬ وقد أخافني ذلك كثيرا. هل أخذوا جميعًا درسا في الشطرنج فاتني بطريقة ما؟ ماذا لو لم أكن جيدة كما اعتقدت؟ لم أستطع التخلص من ذلك الشعور٬ وكان الرنين المستمر في أذني يخبرني بأنني سأفشل.

افتقدت مدينتي٬ وعاودني الشعور بالوحشة. اشتقت لبساطة الحي الذي أعيش فيه، وإلى حضن العائلة الدافئ، وإلى صدى صوت الأذان الذي اعتدت على سماعه أكثر من مرة في اليوم. هنا كنت غريبة، لم أكن أكثر من فتاة عربية في دولة إسكندنافية بعيدة. كان الناس مهذبين لكنهم على مسافة مني. الطعام كان غريبًا، لا يشبه طعم الفلافل الطازج أورائحة المنسف يوم الجمعة. ما فائدة معالم السويد المدهشة إذا لم يكن حولي من أشاركهم ما أشاهد وأرى وأتعلم؟

ثم جاءت نقطة التحول في هذه الرحلة: مباراتي ضد الجراند ماستر المصري باسم أمين، بطل الشطرنج الدولي وصاحب أعلى تصنيف عربي وافريقي والحاصل على مراكز متقدمة على مستوى العالم. لم تمر لحظة في هذه البطولة دون أن يشيد اللاعبون بإنجازاته وبكل تكتيكاته وانتصاراته. اللعب ضده كان بمثابة الوقوف في ظل عملاق. وكنت أنا هناك، جالسة على الطرف الآخر من الرقعة٬ مقابله. كانت يدي ترتعش٬ وساقاي ترتجفان٬ وكان صوت نبضات قلبي يصل إلى أذني. نعم، كنت خائفة.

وبدأت اللعبة.

كان الأمر ساحقًا في البداية. كل خطوة قام بها كانت مدروسة ومحسوبة بدقة، وكل قطعة مدعومة، وكل حركة مخطط لها.

ثم جاءت الصدمة.

لقد ارتكب خطأ.

خطأ صغير، خطأ لم يكلفه قطعة شطرنج ثقيلة وبالتأكيد لن يكلفه المباراة. ومع ذلك كان خطأ واضحا. راجعتُ الحركة برأسي… تحققت مرة ثانية، ثم قمت بالتحقق مرة ثالثة لأتأكد. لقد فحصت الرقعة بعناية بحثًا عن تفسير. لم تساعد هذه الحركة موقفه، ولم تكن تضحية لفتح الطريق لخطة أكبر، لا. لقد كانت مجرد خطأ.

بطل الشطرنج٬ الجراند ماستر باسم أمين، ارتكب خطأ.

أغمضت عينّي للحظة كاملة. تجمدت في مكاني. لقد درس هذا الرجل سنوات طويلة وتطور وضحى من أجل الصعود إلى قمة عالم الشطرنج، لبنة فوق لبنة يوما بعد يوم. مع ذلك، فقد ارتكب خطأ أمام لاعبة في السادسة عشرة من عمرها.

في تلك اللحظة٬ اكتشفت أنه انسان، مثلي تمامًا. لا بد أنه كان لاعبا مبتدئا في مرحلة ما، ومن الطبيعي أنه قد أخطأ مرارا وشك بقدراته تكرارا. أدركت في تلك اللحظة بالذات أنه لم يكن ليصل إلى ذلك الموقع المتقدم على مستوى العالم بمساعدة قوى خارقة أو عبقرية فذة، ولكن من خلال إرادته وتصميمه. لقد صدمني هذا الاعتراف أخيرًا، وبنفس السهولة، بدأ خوفي يتلاشى تدريجيًا. لقد عرفت حينها أن باستطاعتي أنا أيضا أن أفعل ذلك

استمرت اللعبة. لم أفز، ولكنني صمدت، بل لعبت أجمل مباراة في مشواري٬ وقدمت أفضل ما عندي. ولقد كان ذلك مرضيا بالنسبة لي. عندما غادرت المباراة، شعرت فعلا بالفخر.

في اليوم التالي من البطولة، حضرت درسا تدريبيا لن أنساه مع (جراند ماستر) فرنسية. لاعبة شطرنج عالمية، قوية ،محترفة وواثقة من نفسها. من خلال مشاهدتها ومشاهدة أمين، رأيت انعكاسا لما يمكن أن أكون عليه، كعربية وكفتاة. شغفهم باللعبة وثقتهم بقدراتهم وما حققاه على مستوى العالم – كل ذلك أضاء شيئا بداخلي. أدركت حينها أن الشطرنج لم يكن مجرد لعبة ذكاء؛ لقد أصبح طريقة للتعبير عن قدراتي، واحتضان هويتي.

لقد بدأت رحلتي إلى السويد بمشاعر متقلبة: الوحدة، والحنين إلى الوطن، والشك في قدراتي. لكن في النهاية، اكتشفت حبا جديدا للشطرنج. لقد كانت رياضة عقلية اعتبرتها هواية طوال الأعوام التي مضت؛ لكنها اليوم أصبحت جزءًا مني. بعد هذه التجربة٬ عدت إلى موطني الأردن مسلحة بالإلهام والتصميم الذي لم يسبق لهما مثيل. لم يعد الشطرنج مجرد لعبة بعد الآن. لقد أصبحت طريقًا اخترته وسأواصل الصعود فيه بثبات.

وفي ذلك٬ وجدت مكاني

زر الذهاب إلى الأعلى