حرب أوكرانيا المنسية هي الأخطر والأصعب
بقلم: رفيق خوري
النشرة الدولية –
حرب أوكرانيا أخطر بكثير من حرب غزة ولبنان وكل “محور المقاومة” بقيادة إيران، وإن بدت أحياناً كأنها حرب منسية. هنا كثير من الصخب والشعارات والدمار من دون أن تقود التوقعات إلى مشهد جديد للشرق الأوسط أو نظام أمني إقليمي يوافق عليه الكبار. غزة انتهت من دون أن تنتهي الحرب ولا أحد مستعد لحكمها، ولبنان يكاد الدمار يكتمل فيه من دون أي تعاطف سياسي أو إقدام أية دولة على أي تغيير في مسار علاقاتها مع إسرائيل وسط رهانات على استعادة الـ”ستاتيكو” السابق. أما في أوكرانيا، فإن اللعبة أكبر.
حرب تدور بصواريخ باليستية عابرة للقارات، وتدار على حافة التهديد النووي الروسي. حرب الحسم في السيطرة على أوروبا، وفي ترتيب نظام عالمي جديد متعدد الأطراف. وحرب الربط أو فك الربط بالنسبة إلى موقع جيوسياسي واستراتيجي حيوي. فمن الحقائق التاريخية أن “روسيا من دون أوكرانيا تبطل أن تكون إمبراطورية”، كما كان يكرر البروفيسور زبيغنيف بريجينسكي مستشار الأمن القومي أيام الرئيس كارتر. وكما أصر الغرب على إبعاد أوكرانيا من روسيا للحؤول دون أن تصبح موسكو إمبراطورية، أصر الرئيس بوتين على استعادة أوكرانيا لبناء الإمبراطورية. وهذا ما أدركته من البدايات المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، إذ قالت في مذكراتها إنها سعت إلى تأخير انضمام أوكرانيا لـ”الناتو “لعدم إغضاب بوتين. ومن هنا حتمية الحرب الحارة بين روسيا والغرب بالوكالة بعد أعوام من نهاية الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والغرب.
ومن هنا أيضاً حتمية الحرب الباردة بين أميركا والصين التي قد تصبح حامية إذا قررت الصين ضم تايوان بالقوة. والمشهد ناطق، فأميركا قلقة ومتوترة وهي على قمة العالم، والصين واثقة وهادئة بعدما وصلت إلى القمة، وروسيا مستنفرة في دور المخيف الخائف، الخائف من تمدد “الناتو” إلى باب بيته والمخيف المندفع في حرب لمنع “الناتو” من التفكير في ضم أوكرانيا.
أميركا وقعت، على رغم كل التحذيرات، في فخ “ثيوسيديدس” الذي يرمز إلى خوف القوي من قوة صاعدة. وهو، بحسب المؤرخين، ما وقع بين أثينا وإسبرطة حيث تخوفت أثينا القوية من إسبرطة القوة الصاعدة، فشنّت عليها حرباً. لكن الصين تسعى إلى عدم الوقوع في هذا الفخ، وإن كانت تحضر لفخ أكبر أوسع.
وإدارة بايدن تختصر العلاقات مع الصين بثلاثة، “تنافس وخصومة وتعاون”، وإدارة ترامب تتحدث عن الأعظم، والرئيس شي جينبينغ يستخدم الرغبة في التعاون، لكنه عملياً يريد “إعادة صنع العالم وطرد القيم الغربية من المؤسسات الدولية وإخراج الدولار عن عرشه”، كما تقول إليزابيت إيكونومي من جامعة ستانفورد ومؤلفة “العالم بحسب الصين”، لا بل إن شي يدعو إلى إجماع دولي على تحقيق برامج “الحزام والطريق والنمو العالمي والأمن العالمي والحضارة العالمية”. ومختصر ذلك هو نظام عالمي جديد ليس مجرد نظام متعدد الأقطاب.
لكن دعاة التفاهم مع الصين في أميركا، وطبعاً في أوروبا، ليسوا قلة، وهناك من طرح فكرة “مجموعة الاثنين” من أميركا والصين، وسط مجموعة “الدول الصناعية السبع” و”مجموعة الـ20″. فالمؤرخ آدم تور دعا إلى”التكيف مع صعود الصين التاريخي”، والعالم السياسي غراهام أليسون طالب بقبول “النفوذ الصيني في آسيا”، غير أن الموجة العاكسة تعلو. فأستاذ العلوم السياسية في “جامعة تافتس” مايكل باكلي يرى أن “المصالح الحيوية متصادمة ولها جذور قوية في نظامي البلدين، ولا يمكن خفض العداء من دون تحول كبير في موازين القوى، فالعداء ليس لأن الطرفين يسيئان فهم بعضهما بعضاً، بل لأنهما يعرفان بعضهما بعضاً جيداً”. لا بل إن مات بوتينجر، وهو نائب سابق لمستشار الأمن القومي، ومايك غالاغر، وهو نائب سابق في الكونغرس، يرفضان إدارة التنافس مع الصين، ويطالبان بخطاب تصادمي مع بكين، بالتالي “ربح التنافس”.
وشي يرى أن الصين في صعود وأميركا في هبوط، وقد جاء في التاريخ الرسمي للحزب الشيوعي الصيني خلال مئة عام والصادر عام 2021 أن “الصين أقرب إلى المركز على مسرح العالم مما كانت عليه من قبل، ولم تكُن أقرب إلى ميلادها الخاص كما هي اليوم”. وما يريده شي هو ربح “حرب بلا دخان” مع أميركا التي تريد أن ترى كثيراً من الدخان فوق المعركة مع الصين. والواقع أن الصين التي تدعو دائماً إلى الابتعاد من عقلية الحرب الباردة بدأت حرباً باردة مع أميركا، واختارت إقامة “شراكة بلا حدود” مع روسيا في مواجهة أميركا والسعي إلى إضعاف الهيمنة الأميركية في العالم. ومع أن الصين عقدت اتفاقات مع أكثر من مئة دولة في إطار “الحزام والطريق”، فإن استطلاع رأي أجرته مؤسسة “بيو” في 24 بلداً من كل القارات عام 2023 أظهر أن 22 في المئة تفضل الصين و60 في المئة تنظر بإيجابية إلى أميركا.
واللعبة ليست ثنائية بل ثلاثية، الصين وروسيا في مواجهة أميركا. وإذا كانت الساحة الحارة في أوروبا انطلاقاً من حرب أوكرانيا، وفي الشرق الأوسط انطلاقاً من حرب غزة ولبنان، فإن الساحة الباردة للتنافس الاقتصادي والجيوسياسي هي في ما صار يسمى “الجنوب العالمي”. وليس كله جنوباً في الجغرافيا، وهو يضم دولاً كبيرة مثل الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وإندونيسيا لها أدوار. كما يضم دولاً إقليمية لها أدوار مثل إيران وتركيا وإسرائيل.
ولا أحد يربح حرباً باردة بالكامل، وحتى الحرب الباردة الأولى، فإنها انتهت بقتيل وجريح، القتيل هو الاتحاد السوفياتي والجريح هو أميركا، كما أكدت الأحداث بعد نشوة النصر وحديث “نهاية التاريخ”.