لوحات أسطورية للفنان عامر العبيدي توثق “المحاور الفلسفية بخطاب فن التشكيل المعاصر”

الكاتبة – دنيا صاحب / العراق

المحور (1) { أثبات الهوية الثقافية بخطاب فن التشكيل المعاصر }
إن تحصيل معطيات الفنان التشكيلي عامر العبيدي في مسيرته الإبداعية التي أمتدت لأكثر من أربعة عقود من الأعوام نتج عنها أبتكار جداريات عريقة المنشأ، ولوحات تنساق نحوها تأملات المفكرين والباحثين وهواة الفن التشكيلي في مسرحه الأسطوري الخيالي من جميع أنحاء العالم، يشهدهم أعماله المتنوعة بمحتواها الهندسي التكعيبي المائل للتجريد بأسلوبه التعبيري المثير للدهشة، يجسد أفكاره الإبداعية مابين التصوير الواقعي وتجليات خياله الجامح بالآفاق التأملية، فيستوحي أسطورته التاريخية من العصور الأولى للحضارات ق.م؛ بنسق فني يواكب عصر الحداثة، محاولاً دفع حدوده الفنية إلى أقصاها التعبيري بمضمونها الفلسفي ليسجل خبراته الفنية ويوثق تاريخ أجداده العريق، كرسالة بصرية تروي للأجيال حياة الشعوب القديمة برؤيته المعاصره، ويسرد الحقائق الثقافية وتطلعات الروح الانسانية السامية نحو تأصيل الهوية الثقافية والقيم التراثية الإجتماعية.

نشاهد في مسرح لوحاته أدوار بطولية يعبر عن صولة فرسان الهيجاء المستوحاة من تراث حضارة بلاد الرافدين يفضي برؤيته التعبيرية قصصاً عن حقب تاريخية ممتده بإرثها العريق ليومنا هذا، وهي الحضارة {البابلية والآشورية والأكدية والسومرية}، يتبنى برائعة أفكاره القصص والملاحم الأسطورية والقصائد الشعرية في تاريخ الفن والآدب والتراث الثقافي العراقي والعربي، إذ ينبثق عنه إعادة تقييم العادات الإجتماعية والقيم الأخلاقية والإنسانية، بوصف سردي يأتي بخضم وجود سلسلة من الأحداث المرتبة فـي أعماله زمنياً تعاقبياً أو ترتيباً سببياً منطقياً، بحيث لايكون الواقع معزولاً عن مقاطع خياله الفانتازي، وهذه الصياغات الفلسفية بأسلوبه التعبيري تصور تقدمه الثقافي والفكري الحضاري بمساره الفني، الذي نشير إليه بتنوع الإبداعات والإبتكارات الفنية، في السردية التنويرية القديمة بالأسطورة، يطرح نموذجاً يحتذى به في التطور (الإبستمولوجي) وإن أثارها دائمة تدل على الهوية الثقافية العراقية و العربية وتطبيعها فكرياً في ذاكرة الأجيال المعاصرة.

يفتح أبواب جديدة نحو المعرفة المبنية على أسس فلسفية يستمدها من نظرية (الفينومينولوجيا) التي تهتم بمعنى الموضوعية أو الواقع كما يعاش ويختبر بشكل ذاتي وهي الخبرة الحدسية للظواهر كنقطة بداية (أي ما تمثله هذه الظاهرة في خبرتنا الواعية) ثم تنطلق من هذه الخبرة لتحليل الظاهرة وأساس معرفتنا بها وأيضاً تتشكل بين أفراد المجتمع الواحد، تؤكد على أنه يجب فهم كيف يعطي الناس معنى لعالمهم وحياتهم وأقوالهم وأفعالهم، وتركز على الشعور كطاقة فعلية تنطلق منه معاني الأقوال والأفعال، التي تصدر منها تجليات الأحداث ومجرياتها في الواقع الظاهر، تؤكد هذه النظرية على أهمية الخبرة الشخصية للإنسان والتي من خلالها يمكن له فهم وإدراك حقائق الأشياء بجوهرها، ومن الممكن فهم مسار الفلسفة بمحاورها المتعدده بإستعارة صياغة الفنان في عالم أسطورة الكلاسيكيات القديمة على أسس (الفينومينولوجيا) تشير إلى ظواهر الوعي، بمعنى دراسة الوعي من خلال الظواهر الخارجية وأسلوب إدراك العقل لتلك الظواهر، وإنها الموضوعات الأساسية يرتكز عليها الفنان على النماء الإدراكي وتطوير العقل البشري، جزءًا مهمًا من هذا التصنيف للتطور الثقافي والفكري الحضاري بالمعرفة البشرية، وإن فلسفة الأساطير لها دور كبير على صعيد الفنون الجميلة لأنها تنطوي على نشأة الفن الأولى مغزاها معرفة تراث تلك الشعوب بأعرافها الإجتماعية وأعراقها المختلفة التي تمثل عنصراً مهماً لا يمكن عزله عن التاريخ الإنساني وعن ثقافة الإنسان على مدى الأجيال فهي تعبر عن محور الروح الذاتية في كافة الحضارات وإن عالمها يزخر بالقيم الأخلاقية والإنسانية.

نلاحظ الأسس المنهجية التي يعمد عليها الفنان في تصميم بحثه الفني التشكيلي المختص بالهندسة التكعيبية التجريدية والزخرفة والنقوش الإسلامية، يؤسسها على منهج البحث و التجريب والإستقراء والإستكشاف والوصف للظواهر التي يتقصى بحثها في ثقافات الشعوب العربية ( ظواهرها البيولوجية)- ويستعين بعينات مقصودة لتكون مصدرًا لكشف الوقائع التاريخية ومجريات أحداثها التي تتضمن على سبيل المثال؛ { الخير – الشر – الحياة – الموت – النور – الظلام } محور الظواهر الكونية بين النقيضين نستبينها في لوحات مثيرة للتساؤلات والتفسيرات تكون عناوينها ملخصة لرؤية الفنان وهي : { شخص جديد – ) – (أجساد مهاجرة) – (جلسة مع النفس والذكريات) – (حصان بابل) – (ثوار العراق الأحرار) – (أبطال الثورة الشجعان) – (صراع من أجل البقاء) – (العودة الى الوطن) – (الإنسان هو المحور) – (الشخصية البشرية) – ( نساء دمشقيات – لوحة تراثيات ) – وهذه المجموعة لسلسلة أعمال يكون الفنان متأثراً بالتراث والفلكلور الشعبي العراقي والعربي}.

ولوحات (ثلاثية جحيم بغداد) – ( رجال على قارعة الطريق ) وهي مجموعة لسلسلة أعمال في محور الفن السياسي
أما (مجموعة الكراسي) : خاض الفنان عامر العبيدي غمار مرحلة مهمة في التسعينات القرن العشرين أستوحى رمزية الكراسي بأسلوب مغاير يحتوي مضمون فلسفي متنوع يقتفي أثار الفنان الأسباني الشهير بابلو بيكاسو بأسلوب ما يسمى التكعيبية التحليلية، يطبق مفهوماً معاصرًا في التشكيل العالمي في هذه السلسلة من أعماله التكعيبية المائلة للتجريد، يصور فيها شخصيات رجال و نساء بحالتهم اللاواعيه واللاشعور وتكون عناوينها الموحيه عن حالاتهم النفسية تدعى بعلم النفس السلوك اللاواعي (Unconscious Behavior)، عبارة عن أفعال تلقائية تصدر منهم دون أن تتحكم بها عقولهم، ولا يكونون على دراية بها فهي رد فعل لا إرادي على حدث، يؤدي بعلم النفس (الفسيولوجي) التأثيرات النفسية المرتبطة بالشخصية، وحالات تنتج بسبب بعض العمليات العقلية والتصورات والأفكار والمشاعر اللاواعيه التي تنشأ لدى شخصية الأفراد يشير إليها الفنان بريشته في تفاصيل لوحاته يصور كل حالة عما يتعلق بانفعالاتهم النفسية اللاإرادية التي تنعكس على تصرفاتهم وشخصياتهم، دون إدراكهم بعيداً عن تحكمهم الواعي أو شعوري عما يصدر منهم من احوال تفاعلية، فاللاوعي مخزن لتجارب الأفراد المترسبة نتيجة للجهل والتخلف والكبت والقمع والإضطهاد والحروب والصراعات والمجاعات والضياع والغربة وكذلك التسويف وعدم الإرشاد والتوجيه بمفاهيم التنمية للذات البشرية، مما أدى لبقاء هذا المخزون من التجارب السابقة، وكذلك تأثيرات البيئة المحيطة وعادات المجتمع الغير صالحة وترسبات الماضي، بعيداً عن الذاكرة السليمة في أماكن لا يدركها الفرد بوعيه تكون منسوخة في العقل الباطن، فتعنى بهذه الأفكار الفلسفية في اللوحات الصامتة للفنان عامر العبيدي يكون عنوانها: { ( الرجل المستريح) – (الرجال يستريحون على الكراسي) – (المرأة المستريحة) – (رجل جالس على كرسي ينتظر قدوم المجهول بصبر) – (رجل مستلقي على كرسي من خشب) – ( رجل وكراسي )}.

حاول الفنان مثابراً أن يوظف ملكات أفكاره بمختلف الأساليب البحثية والاستقصائية لجمع البيانات الهندسة التكعيبية بتنظيره الحسابي الثلاثي الأبعاد في أبتكار العديد من الأعمال المتوسطة والصغيرة الحجم، المتنوعة بأسلوبه الفني المعاصر الذي غلب على النمطية التقليدية في المدرسة التكعيبية، مؤديًا إلى مستوى أعلى من التجريد، وأيضاً نشاهد له أعمال تشكيلية كبيرة الحجم بإسلوبه المتطور تكون جسراً ثقافياً بين البلدان العربية والغربية، يستفاد منها في مجالات كثيرة للتوعية والتثقيف وتطوير النمو الفكري.

إن جملة أفكاره وتقنياته أثرت على الكثير من الباحثين المفكرين المتابعين لخطواته الإبداعية لتأسيسه حقول مبتكرات فنية مختلفة استمرت في إغناء العمل التجريبي بفن البصريات والتنوع بالإيحاءات الرمزية، تتشكل تأثيراتها بصفة تركيبية لا تخلو من التعقيد، كما تتجلى بوضوح على هيئة شخوص تكعيبية وألوان منسقة على قاعدة متباينة ومتضادة، نتج عنها تصوير السمات والملامح والحركات والإيماءات والسكنات في مناحي الإنسجام والتناغم بالشكل العام للوحات التشكيلية، وهو المبدأ الفني الذي يخلق التماسك في العمل الفني من خلال أوجه التشابه بين الأجزاء المنفصلة ولكنها مرتبطة ببعضها فنرى الشكل الهندسي من كافة وجوهه في وقت واحد، لقد أسس الفنان عامر العبيدي مدرسة تكعيبية بنمطية أعلى من التجريد بنسق معاصر يواكب زمن الحداثة، يتعلم منه طلاب الفنون الجميلة وهواة الفن التشكيلي المعاصر، لأنه موسوعة فكرية متنوعة يعد من كبار الفنانين الأوائل، الذين خاضوا تجربه الفن التشكيلي التكعيبي، التجريدي، بتنوع ملحوظ على صعيد الفنون التشكيلية العالمية، حين قام بفتح أبواب لمفاهيم فلسفية متعددة الأوجه يركز من خلالها على بنيوية النشأة التاريخية والمنظومة الأخلاقية والقيم الإنسانية والمفاهيم الثقافية والإجتماعية، يستثني آراء المفكرين والفلاسفة حول حقيقة وجود الإله والدين والحياة والفناء والخير والشر وماهية الحدثان في الوجود، بطرق إستثنائية نتعرف عليها من خلال الإستقراء في مضمون أعماله التشكيلية، يوضح أسلوب الإنسان الواعي واللاوعي بالشعور واللاشعور في الحالات النفسية والسلوكية، والسلوك الأخلاقي في العلاقات الإجتماعية الخاصة والعامة، وهذه اللبنة التثقيفية تساعدنا على معرفة وفهم طريقة حياة الآنسان وأسلوبه بمراحل متعددة مظاهرها الفردية والجمعية، تمثل تطلعات ورغبات وإحتياجات الإنسان وهو يحاول تغيير حياته في وجوده المتحول.

المحور 2)) { فلسفة الأساطير بقصصها الديناميكية}
الأساطير هي أساس لكل الثقافات بكافة المستويات وتحيط بحياة الإنسان من كل جانب حتى تنفذ إلى صميم قراراته الأخلاقية وعلى الرغم من احتوائها على عنصر الخرافة، وتعاملها مع الوقائع الخارقة والمستحيلة فهي أكثر فعالية في وصف الوضع الإنساني، لإقترابها من أغوار النفس البشرية، وتمثل الأسطورة أولى مراحل التفكير الفلسفي تنشأ نتيجة التأمل في ظواهر الكون والوجود، وعلاقة هذه الظواهر بحياة الإنسان على الأرض وأهتم المفكرون الفلاسفة بتشخيصها ووصفها بأنها المصدر الأول للظواهر الكونية و البيولوجية والمنظور عنها هي عبارة عن مبان ، أشكال ، عمليات ، علاقات، التي تظهر في مجتمعات معينة وفق ظروف معينة ولا تظهر في ظروف أخرى، فالأسطورة بهذا المعنى هي الوسيلة التي حاول الإنسان من خلالها أن يفكر ليعبر عن انفعالاته النفسية والروحية والوجدانية، إن كانت فردية أو جماعية، وبهذا السياق يسهم الفنان التشكيلي عامر العبيدي بتعريفها وتوثيقها في لوحاته الأسطورية ذات قصص ديناميكية، لتكون أرث كبير من التحف وأيقونات الفن التشكيلي المعاصر، يتداول بها على صعيد العالم العربي والغربي. يحاول إعادة ذكريات أمجاد تلك الحضارات بخطاب الفن التشكيلي المعاصر لإثبات الهوية الثقافية العراقية والعربية، من مناحي القيم الأخلاقية والإنسانية والإجتماعية والتصورات الواقعية التي تتميز بها المجتمعات، تبعًا لخصوصيتها الثقافية والتراثية التاريخية.

يوزع أدوار صولات الفرسان على صهوة جيادهم، في خضم قصص ديناميكية ومشاهد دراماتيكية يقدم عرضها في مسرح جدارياته الكبيرة ولوحاته الفنية المتنوعة الأحجام، تحمل معاني أسطورة ملحمية مشبعة بإنفعالات القوة والمبارزة والحماس والتنافس والتبادل العاطفي والإنساني برمزية الأشكال التكعيبية – التجريدية بأسلوبه الديناميكي الغير مألوف، يتميز به من حيث إختيار الألوان والمساحات والأشكال الهندسية، يستخدم تقنيات حديثة بحركات فنية بصرية ذات أبعاد ثلاثية، وأغلبية أعماله التشكيلية مستوحاة من مظاهر التراث الثقافي الشعبي والتراث الحضاري التاريخي، في مجموعة من القصص الديناميكية تجسد جدلية العناق بين الأسطورة والفن التشكيلي المعاصر؛ عنوانها 🙁 حديقة الفرسان) – (الخيول العربية الجامحة) – (صهيل الخيول الجامحة) – (حصان بابل) – (فارس وحصان) – (عملية انقاذ الفارس الجريح) – (رحلة الفرسان) – (الحصان الأبيض)- ( الإحتفالية بترويض الخيول) .

يصور الفنان عامر العبيدي عمل فني أخر بتركيبة شخصين مصحوبين بالطيور الطائرة يرمزان إلى صراع النفوس البشرية بمراقبة الماضي والعيش في تفاصيله المؤلمة المتكرره تنقل معاناة المشاعر الصامتة المكبوته الغير ظاهرة في داخل الإنسان في الحاضر لآنه يقرأ الماضي بطريقة خاطئة ويرى الحاضر والمستقبل بطريقة خاطئة أيضاً، لا يعرف القيمة الحقيقية للحظات العمر التي يعيشها (الآن) في هذه اللحظة، لأنه غائب في أعماق ذاكرة الماضي، يعاني من ذاكرة لا تكف عن العبث بتفاصيله التي تكون، إما ذكريات من لهيب يشتعل بالنفس يتمنى خموده أو إطفائه إلى الأبد، وإما نور يستضيء به في القادم من أيامه.

يجسد الفنان عامر العبيدي في سلسلة أعمال معرضه الشخصي الذي تم افتتاحه في سنة 2009)) في الولايات المتحدة الامريكية على قاعة {Wesley house Gallery} عنوانه {جراح المهاجر} على هيئة شخوص تكعيبية مع طيور بتعبيره المجازي،الذي يفضي إليها لمسات إيحائية إشاريه مفعمة بالألوان الحيادية والباهتة ابتكرها بتدرجات لونية متوسطة بتحريضات بصرية تجريدية» مما يجعل الأعمال تثير عند المشاهدين ( ردود فعل – سيكولوجية ) ما يسمى بعلم النفس هو علم يهتم بدراسة سلوك البشر وتفكيرهم، كما يعنى بدراسة عمليات الإدراك الحسي، والتفكير، والتعلم، والإنفعالات، والدوافع، كما يدرس تكوين الشخصية والسلوك غير الطبيعي عند الإنسان، كما يهتم بدراسة التفاعل بين الأشخاص والبيئة المحيطة بهم، ويرتبط علم السيكولوجي ارتباطاً وثيقاً بكلٍ من الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، والذي يعنى بالتأثيرات الإجتماعية والبيئية على السلوك. يصور الفنان حالات نفسية مختلفة للمهاجرين والمغتربين ، بسبب مشاعرهم المفقودة وأرواحهم تائهة وأفكارهم المشتتة وأوضاعهم الصعبة مأساوية، وحالة الأمن المهدد والتشريد والضياع . والغربة بحد ذاتها شعور قاتل، فما بالك بغربة المشاعرِ والروح عندما يغتال ما بداخل الانسان، وحين يجتاح اليأس أعماقه، ويبقى القلق والصمت دافعه للبحث عن مصير مجهول، وكيف تهفو النفس إلى شيءٍ لا تجده، ويرنو البصر نحو أفقٍ لا نهاية له، وكيف أصبحت اللغة التي يتحدث بها الجميع غير مفهومة، هل انتهى الطريق بإغتراب النفس وتبخر الأحلام تحت وطأة الواقع، ومتى يحين وقت عثوره على الحقيقة المفقودة ليتخلص من كابوس غربة النفس والروح التي تنأى بعيدًا عن أحلامه.

 

يستعرض الفنان عامر العبيدي ردود أفعاله من حالته النفسية على أشكال طيور مهاجرة في مجموعة لسلسلة أعمال تشكيلية بمعرضه الشخصي العاشر بعنوان : {الضياع في متاهات الهجرة} افتتح في عام (2015) بإحدى قاعات النادي الإجتماعي وسط مدينة دي موين عاصمة ولاية ايوا في الغرب الأوسط الأمريكي، يمثل اللوحات بأشكال الطيور المهاجرة إلى أرض مجهولة الموحية بتعبيره الوجداني عن حالاته النفسية التي عانى منها أثناء الهجرة إلى امريكا، يضع مفهوم فلسفي بحثي عن حالة الإغتراب في مضمون لوحاته التي تعكس الإنفصام والصراع بين القوى اللاوعية في ذاته وذاته الواعية، يطرح عما يجول في خاطره، وإن حالة الأغتراب التي يشعر بها الفنان عامر العبيدي يعبر عنها بمشاعر مبهمة، يخفيها في عمق تفاصيل لوحاته التشكيلية ذات فصل جديد يوحي برمزية الأشكال المجسمة التكعيبية التجريدية والألوان الباهتة، وهي الألوان التي تفتقر إلى السطوع، وأقل درجات التشبع باللون وتستخدم في التصاميم الداخلية لمنح الشعور بالهدوء والسكينة والتأمل وهي : اللون الأصفر الباهت، والأزرق الباهت، والأخضر الباهت، البرتقالي الباهت، البني الباهت، التي ترمز إلى اغتراب النفس والروح، تتبلور مشاعره التجريدية بكتل لونية يواري نفسه فيها بمعاني غامضة في لوحاته الغرائبية ويحاول أن لا يفصلها عن أنماط مجتمعه العراقي وبيئته الثقافية والإجتماعية، لقد عانى الفنان عامر العبيدي من حالة أرباك واضطراب نفسي حين أصبح مرتبطًا بمجتمع لا يمده بصله فيه معايير ثقافية واجتماعية مختلفة يجد الصعوبة في التأقلم معها وتطبع فيها، بسبب اختلاف ثقافته العراقية وهويته الإسلامية وهذه المعايير الإجتماعية لها ثقل موزون مؤثرًا على نفس الفنان ومهجته الروحية، وعلى هذا النحو سعى مثابراً في البحث والتجريب الفني المتواصل لأجل تأصيل الهوية الثقافية الوطنية العراقية والقومية العربية، يرى نفسه في بلاد الغربة «بقواعد تقيد وضعه الإجتماعي ومبادئه التي ترعرع عليها” و لم يعد يدرك ما ينبغي وما لا ينبغي أن يفعله في متاهات محيطهم الإجتماعي» ( المعروفة باسم : ( البيئة – السياق الإجتماعي – الثقافي) بسبب ظروف قاسية التي مر بها بعد نزوحه من ربوع وطنه الحبيب.

بعد تلك المرحلة بدأ بتجربة جديدة في واقع الهجرة، يرسم تفاصيلها على شكل سرديات قصصية يجسدها بصروح جداريات عملاقة يوثق فيها قضايا وطنه (التاريخية – الثقافية – الإجتماعية – السياسية) يحاول أن ينقل صورها إلى العالم، يصور حالات عانى منها المواطنيين العراقيين صاحبتهم حالات نفسية مزية صعبة جراء الحروب التي نشبت خلال العقود المنصرمة التي اضطرتهم إلى اللجوء والهجرة عن الوطن. ونوسع برؤيتنا التحليلية المنهجية في مضمون أعمال الفنان عامر العبيدي في لوحة عنوانها:(الحلم والأمل بالعودة إلى الوطن) هي عبارة عن رسوماً مستوحاة من الواقع المرئي يرسم ملامحها من وحي خياله وتكون ألوانها بطابع الخلفية التاريخية، يتخيل هذه الوقائع في نفسه التواقه بالعودة إلى الوطن، بأوقات ذروة الشوق والحنين، تتسابق إليه طيور الأمل بمواسم الخير والعطاء والسلام والسعادة، حين ينوي بالرجوع إلى أرض وطنه مهد الحضارات إنه الفنان الحالم الذي لا يعزب عنه أن يسرد أدق تفاصيل مشاعره الوجدانية، في قصص حبه للوطن يذهب برحلة روحية إلى سبر أغواه خارج العالم الظاهر بخلوته مع نفسه في مرسمه الواسع، ليجسد ما يتخيله في عالمه المرئي كأنه حقيقة في مجموعة لوحات معبرة عن جراح المهاجرين عن الوطن عنوانها : { (جراح المهاجر) – (عذابات الرجل الغريب) – (طيور الأمل) – (حلم الغرباء عن الوطن) – (غرباء الروح) – (النفس المغتربة) } فيمزج بين الخيال والحقيقة في مسارح خيالية، ينسج المعاني الهادفة إلى النماء الفكري والتبصير والتوعيه والتثقيف بملاحظات مهمة مؤكدًا على أن المفاهيم الفلسفية والثقافية والفنية والإجتماعية، لتراث الشعوب هي الحصيلة الإنسانية لجوانب الحياة كافة ومزايا تطورها ونموها، فالتراث الشعبي لكل أمة وأي مجتمع هو ينبوع الثقافة والأصالة الذي يغذي الوعي القومي والمجتمعي لدى الفرد والجماعة في المجتمع الواحد، لذا تستمد الأمم هويتها من تراثها الساري في أعماق أبنائها وأصالتها المتجذرة في قلب التاريخ، وهذه البنية الاساسية مهمة بالنسبة للمجتمعات والجماعات البشرية.


وهكذا تواكب محاور مشاعر الفنان المختلفة سلسلة من أعماله (جراح المهاجر) ذات كتل لونية حيادية مشبعة بتأثيرات الإضاءة اللونية المتموجة تثير العين وتحيرها لتوحي بحركة تقوم على مبدأ الخداع البصري ونسلط الضوء على هذه اللوحات المميزة بالوانها الحيادية والباهتة يبرز لون البيجي والبني والبرتقالي والأصفر، المزوقة بالازرق والسمائي الفاتح والنيلي بتدرجات متوسطة باهتة مؤثرة بمغزاها العميق، يصور جراح المهاجر وضياع النفس في منفى الإغتراب من خلالها. إذ نفسر الحالات النفسية التي يمر بها المهاجر حين يرحل عن الوطن إلى عدة أنماط هي : { العجز، اللامعنى، العزلة الثقافية، اللامعيار، الغربة الذاتية} ونقسم أنواع الأغتراب إلى نوعان من الهجرة التي يعبر عنها الفنان في لوحاته التشكيلية ليس بالضبط كما يفهمها البعض، فهناك هجرة إلى الداخل تكتشف فيها النفس من جديد تنقى من الشوائب، ومن العقد وتطهر من الآثام ومن الحقد وتسمو بالإنسان إلى آفاق أرحب وأسعد ذلك بمجاهدة النفس السفلية الدنيه، من أجل تحقيق الفصل بين ذات الإنسان ونواقصها وجعلها في حالة هوية المسلم الإنسان العارف الكامل الذي يسمو بحياة الروح مع الله وهو التعلق بالذات الإلهية، حيث أبدع الفنان بتصوير هذه الحالة الإيجابية بألوانها المشرقة في لوحة عنوانها:( أنفاس الطيور) ويصور النوع الثاني للإغتراب وهو الهجرة إلى الخارج في لوحة عنوانها: {أجساد مهاجرة} بتعبيره المجازي لأشخاص الذين لا يهمهم فيما يقع في نفوسهم وما ستعانيه يأخذون الأجساد ويرحلون فحسب، وإن الملايين ممن ينوون الهجرة يكونون قد هاجروا نفسياً وروحياً لحظة تقديم الطلب وهجروا الوطن على المستوى الشعوري، ويظل حالهم على هذا شعور حتى لو ظلوا سنوات ينتظرون الإشارة بالرجوع إلى الوطن، فتكون النتيجة الفعلية أنهم يعيشون في بلد فيه الملايين من المهاجرين بالنية، أو الذين رحلوا من وطنهم بأرواحهم، ولا تزال أبدانهم تتحرك وسط الجموع كأنها أبدان الموتى الذين فقدوا أرواحهم ولم يبق لديهم إلا الحلم بالرحيل النهائي أو العودة إلى وطن جديد.

المصور الفوتوغرافي الخاص بالفنان عامر العبيدي جو كاستنر  Joe Kastner

زر الذهاب إلى الأعلى