بين سقوط طاغيتين: نهاية نظام لا انهيار دولة
بقلم: سعد بن طفلة العجمي

يتبارى بشار الأسد مع صدام حسين في الأهوال ودرجات الطغيان فكلاهما تفنن في ترويع وإرهاب شعبه

النشرة الدولية –

تتوالى الأخبار من سوريا، تتصدر أخبارها نشرات الأنباء وعواجل الأحداث الإعلامية. سقط نظام بشار الأسد الذي استمر في حكم سوريا مع حكم أبيه لـ55 عاماً. حكمها الأسد بالحديد والنار والاستخبارات والتعذيب والقتل وقصف المدن والتهجير والتجويع والطائفية وكل أنواع البطش التي لا يمكن أن تخطر على بال بشر.

يتبارى بشار الأسد مع طاغية العراق صدام حسين بالأهوال ودرجات الطغيان، فكلاهما حكم باسم حزب البعث العربي الاشتراكي. كلاهما تفنن في الترويع وإرهاب شعبه وإذلاله وقهره وحصاره وتجويعه وتهجيره. سقط صدام حسين عام 2003 بغزو أميركي. ظهر بعيد السقوط مباشرة شراذم نهبت العراق وقتلت وروعت شعبه ولا يزال بعضها يتصدر المشهد السياسي العراقي اليوم.

وبصياغة أميركية صرفة، وافق المعارضون العراقيون الذين أتى بهم الجيش الأميركي على دستور يكرس الطائفية السياسية في بلاد الرافدين، فعاثت الطبقة الحاكمة فساداً وقتلاً طائفياً لم يتوقف حتى اليوم. فمنذ سقوط نظام صدام والعراق منتهك السيادة والإرادة، فإيران تتحكم بقراره وتعين رؤساء الجمهورية والوزراء والبرلمان فيه، وتركيا تحتل شماله، وكردستان منفصل عنه كواقع حال، والمسؤولون العراقيون في غالبهم مشغولون بنهب ثروات البلاد والصراعات بينهم على مغانم الدولة.

تفشت الطائفية السياسية التي تحكم العراق اليوم وتتبع أوامر إيران، وجلبت معها دموية طائفية لم تتوقف حتى اليوم، فهجرت ملايين من مختلف الطوائف – وغالبيتهم من السنة – وقتلت المئات من المحتجين في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 وغالبيتهم من الشيعة، وتدهورت الحال الخدمية بجميع مناطق العراق وخصوصاً تلك التي يسكنها غالبية شيعية تقول النخب الحاكمة إنها تحكم باسمهم.

وخلقت الميليشيات الحاكمة ازدواجية الدولة داخل الدولة ممثلة بالحشد الشعبي الذي له ميليشياته وقياداته وفصائله ومحافظاته واستخباراته وسجونه ومعتقلاته. لم يطو العراقيون صفحة الماضي، وأصروا على سياسة الانتقام بدلاً من “العدالة الانتقالية” التي تنتقي باختزال كبير، مثلما جرى في جنوب أفريقيا بعد سقوط النظام العنصري هناك عام 1990، إذ نادى نيلسون مانديلا بتجاوز صفحة الماضي والتطلع نحو العيش المستقبلي المتصالح، ذلك ما جرى بالعراق بعد سقوط طاغيته جعل بعضهم يردد، “رحم الله الحجاج، فقد كان أرق بعباده”، وهو درس لثوار سوريا اليوم، الذين قدموا تضحيات جساماً في مواجهة آلة طحن وبطش يشيب لها الولدان طوال خمسة عقود.

كثير من المراقبين يرفض المقارنة بين الشعبين العراقي والسوري، ويرون أن الشعب العراقي أكثر دموية سياسية من أي شعب عربي آخر بالمنطقة، ولكن آخرين يرون أن العقود الخمسة الماضية أثخنت في الجسد السوري جراحاً وقيحاً ونزفاً يصعب التئام جراحه بسهولة، ويرون أن الطبيعة السلمية المتصالحة للشعب السوري تلاشت إبان حقبة حكم الأسد الدموية المتوحشة، فخلقت أجيالاً تتطلع للثأر، وهو ما قد يجر الأمور إلى ما لا تحمد عقباه.

البوادر الأولية تبشر بالتفاؤل، فقد طالب قادة الفصائل مسلحيهم بحماية الناس بجميع طوائفهم ودياناتهم وممتلكاتهم، وألقى رئيس الوزراء بعهد بشار الأسد – محمد الجلالي – خطاباً عقلانياً واقعياً أعلن فيه تسليم مؤسسات الدولة للثوار بصورة سلمية، وهو ما وافق عليه الثوار ومن المفترض أن ينفذوه على وجه السرعة. وهناك رهان لمحبي سوريا وشعبها بأنهم سيتسامون فوق جراحاتهم المتقيحة، ويترفعون عن ممارسات عدو شعبهم القبيحة، ويقدمون صورة مختلفة للتسامح والتعايش وتجاوز الماضي بآلامه ومآسيه التي تهد الجبال.

المحيط السوري وتداعيات سقوط النظام

تركيا

تحاول تركيا والرئيس رجب طيب أردوغان أن ينسبوا نجاح الثورة السورية لهم، وأن يستثمروا في الواقع السوري الجديد لمصالحهم، لكن السوريين أذكى من أن يتذاكى عليهم أحد، فهم يعرفون أن مهجريهم ولاجئيهم استخدموا ورقة للضغط على أوروبا للحصول على المساعدات، كما خبروا في تركيا أنواعاً بشعة من التمييز ضدهم كلاجئين، ناهيك بأن الوضع الاقتصادي بتركيا يعاني التضخم وتراجع سعر صرف الليرة التركية مقابل العملات العالمية، وتتراجع السياحة والاستثمارات الأجنبية لأسباب عدة، لذا فقط يكون التعويل على أنقرة من قبل سوريا الجديدة في غير محله، هذا لا يعني عدم التعاون معها كدولة جارة ومهمة للانفتاح السوري القادم، ولكن الاعتقاد أنها يمكن أن تكون المخلص لسوريا الجديدة من آلامها وجروحها ودمارها وخراب اقتصادها وفقرها، هو وهم وسراب.

إيران

لعبت إيران دوراً مدمراً ومسانداً للبطش الأسدي ضد الشعب السوري، وأتت بقواتها باسم المستشارين وميليشياتها “حزب الله” من لبنان و”زينبيون” و”فاطميون” وأفغان وباكستانيين، بل إنها هي من أقنعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإنقاذ نظام الأسد يوم ترنح آيلاً للسقوط في الأعوام الثلاثة الأولى للثورة السورية.

استثمر الإيرانيون في علاقتهم بنظام الأسد كثيراً وطويلاً على حساب الشعب السوري ودمائه وتضحياته، ولكنهم تخلوا عنه وبدأوا يطلقون لغة ناعمة من طهران تسمي الثوار “فصائل المعارضة المسلحة” بعدما كانت تسميهم قبل يوم واحد من سقوط بشار “التكفيريين والإرهابيين”، لذا فلا أظن أن إيران مرحب بها في الوقت الحالي بسوريا، وقد ينظر السوريون في إعادة علاقتهم معها مستقبلاً إذا ما رأوا تغيراً في سلوكها تجاههم وتجاه المنطقة عموماً.

روسيا

نسقت إدارة الرئيس فلاديمير بوتين مع إيران بعد زيارة لقاسم سليماني عام 2015 لإنقاذ النظام الذي كان على وشك السقوط، فارتكبت جرائم حرب مهولة بقصف المدن السورية بالبراميل المتفجرة، وأخمدت الثورة إلى حين، وعليه فالعلاقة بين موسكو وسوريا الجديدة ستمر بحقول ألغام شاسعة، وسيوضع ملفها على الرف في الوقت الحالي.

العراق

سيبقى القرار العراقي تجاه سوريا مرهوناً بالعلاقة مع إيران ما دامت طهران باقية تتحكم في الشأن العراقي ببغداد، ولذلك فالقراءة لموقف بلاد الرافدين من تطورات الأحداث في دمشق تظل كتابع وليس قراراً مستقلاً نابعاً من إرادة سياسية حرة.

لبنان

للشعب السوري تاريخ طويل من الحلاوة والمرارة مع لبنان، لكن تاريخه الحديث ارتبط بالتدخل الطائفي الشائن الذي لعبه “حزب الله” اللبناني – الإيراني بقمع الثورة السورية وارتكاب المذابح الطائفية بالقصير والحولة وحلب وما حولها، لكن ضعف الحزب ومقتل أمينه العام المؤثر حسن نصرالله أضعف كثيراً من قدراته ليس داخل سوريا وحدها وإنما حتى داخل لبنان نفسه. وكان الحزب والمشروع الإيراني بلبنان وعبر البحر المتوسط يتنفس برئتي بغداد ودمشق التي تقطعت طرقها بعد سقوط حليفها بشار الأسد.

الأردن

عانى الأردن طويلاً العلاقة مع العسكر في سوريا منذ حكم حافظ الأسد الأب، فقد أرسل دباباته إلى جرش وعجلون عام 1970 لمساندة منظمة التحرير الفلسطينية بحربها الانقلابية ضد الملك حسين بن طلال في ذلك العام، واستمر النظام في سوريا يرتكب أعمال التخريب والتهريب والتهديد لاستقرار الأردن. كما استضافت المملكة أكثر من مليون لاجئ سوري على أراضيها. لا شك في أن الأردن فرح لسقوط نظام بشار الأسد، لأن ذلك يعني نهاية التهديدات الطائفية للميليشيات التابعة لطهران بانتهاء النفوذ الإيراني بسوريا، ويمكن أن يكون الأردن رئة تتنفس منها سوريا الجديدة.

دول الخليج العربية

وقف الخليجيون مع الثورة السورية منذ اندلاعها في أبريل (نيسان) عام 2011، وقدموا كثيراً من المساعدات للثوار وللشعب السوري، وتشير التقديرات إلى وجود مليون ونصف المليون سوري يعيشون بدول الخليج مثل ملايين من الشعوب الأخرى بالخليج، لكنهم لا يعيشون بمخيمات كلاجئين ولا تأخذ دول الخليج مساعدات من الأمم المتحدة لاستضافتهم، فليس من بين دول الخليج من وقع اتفاقية فيينا للاجئين (1951)، على عكس سوريا ولبنان والعراق وإيران التي لم تستقبل لاجئاً سورياً أو لبنانياً واحداً.

السوريون العاملون بالخليج يمكن أن يكونوا شريان حياة لسوريا الجديدة بمدخراتهم وتحويلاتهم وخبراتهم التي اكتسبوها بعرق جبينهم وكدهم بالخليج. واستضافت الكويت وبمبادرة من أميرها الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح مؤتمرين للمانحين لمساعدة الشعب السوري عامي 2013 و2015، وخلالهما تعهدت تقديم 500 مليون دولار كدفعة أولى.

لم ولن تتوانى دول الخليج عن المسارعة في تقديم العون والمساعدة للشعب السوري لتجاوز محنته العصيبة، وبناء دولته العزيزة على العرب جميعاً.

أميركا وأوروبا وإسرائيل

تنظر الولايات المتحدة لمنطقة بلاد الشام ومصر من منظار إسرائيلي بحت، ولا أظن الشعب السوري الذي أنهكه وأدماه نظامه على مدى خمسة عقود لديه بوادر الدخول في مواجهة مع أي طرف كان، ناهيك بالدخول في مواجهة مع إسرائيل في هذه المرحلة لتحرير الجولان- أو قل لتحرير فلسطين، وخصوصاً أن إسرائيل تحكمها حكومة إبادة كالثور الهائج الذي أمن حتى الإدانة الدولية الكلامية بسبب أفعاله وجرائمه في غزة ولبنان.

ولذلك فإن الشعب السوري مطالب بالتركيز على التعافي وإعادة بناء الدولة، ففيه قوته الداخلية، كما أن قدرة سوريا على الوقوف على قدميها بقوة ستكون قوة للعرب جميعاً ولفلسطين والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص.

لم ينته الأمر بعد

صحيح أن نظام بشار قد سقط، ولكن سقوط الطغاة لا يعني نزول اللبن والعسل على الشعوب تلقائياً، هكذا علمنا التاريخ، فالشعب السوري اليوم يعيش فرحة عارمة ونشوة غامرة ونفحة هواء عليلة للحرية، ولكن غداً ستذهب السكرة وتأتي الفكرة – كما يقول العامة – وسيجد من يحكم سوريا الغد ملفات عديدة ومعقدة للبناء والتصالح والتفاهم مع الأكراد شرقاً ومع مدن الساحل غرباً واحتوائها واستيعاب تطلعاتها.

ملفات الخبز والماء والكهرباء والتعليم والطبابة والخدمات التي دمرها النظام البائد تحتاج إلى خطة إعمار “مارشال” هائلة لتنهض سوريا الجديدة. السوريون معروفون بذكائهم واجتهادهم “وشطارتهم” وحبهم للعلم والعمل، وإذا ما أتيحت الفرص للشباب السوري – المهجر والنازح والمقيم – في أجواء من السلم والتعايش والتنافس والبناء، فإن سوريا ستنهض وتعيش فجراً جديداً سيشع بنوره على المنطقة كلها. تفاءلوا بحذر.

زر الذهاب إلى الأعلى