حوار فلسفي مع الفنان التشكيلي العراقي غسان غائب يعكس جمال الإبداع

حضور النصوص الشعرية داخل لوحات التشكيل والجماليات البصرية

الكاتبة : دنيا صاحب / العراق

قدم الفنان التشكيلي العراقي غسان غائب في “غاليري الأورفلي” بعمان تشكيلة من اللوحات التعبيرية التجريدية تتألف على أساس لبنات تثقيفية تمثل سبل التكامل للذات الإنساني، مع الوجود المادي والروحاني والتجريدي، فالتصميم الجمالي لديه يتضح من خلال عوامل ومؤثرات منها ما هو خارجي يمثل الأفكار الفلسفية الداخلة في بنائية اللوحات التشكيلية، ومنها داخلي متعلق بذات الفنان وقواه الفاعلة والتي هي ضربًا من الخيال الإبداعي وفيض العاطفة الروحية. حيث تشكلت أغلبية أعماله التشكيلية في تصميمهما عن إحداثيات هندسية على شكل مثلث هرمي ومجسمات بأطر مضلعة وتجسيم السلم أو الدرج على هيئة مصطبات ملونة بقاعدة لونية متضادة، بفن مغاير خارج عن المألوف ويبدو ذلك واضحاً في ما يعرف بـ (الفن المفاهيمي) وهذا الفن يكون ملماً بمعرفة جوهر الأفكار التي يتبناها بسعة رؤيته وما عاينته بصيرته. فينصهر الفنان غسان غائب فكريًا ووجدانيًا وروحيًا مع نصوص أبيات الشعر والأدب العربي، ليحولها بعد ذلك إلى مشاهدات فنية ذات طابع فلسفي وجمالي، في إحدى أشهر الأبيات الشعرية لشيخ التصوف الإسلامي: جلال الدين الرومي، وهي (( لتتعلم السر كن شاسعا كالهواء)) وهذه العبارات تختزن كماً هائلاً من الدلالات الفلسفية والروحانية، بقوة صيغتها البلاغية الجزلة استهوت الفنان في فسحة تأملية، وفرصة مناسبة لعرض معراجه الروحي والإنساني، فقام بصنع مجموعة من اللوحات التشكيلية تلخص حجم موهبته وقدرته الإبداعية. فضلاً عن ذلك إلى مقاربة الأعمال الفنية التي تتميز بالمزاوجة والتناص بين الشعر والتشكيل، سواءً في كتب ضمت نصوصاً شعرية ولوحات – أو معارض لأعماله التشكيلية تضمنت فكرة الدفاتر المرفقة بعناوين نصوص شعرية.

أستطاع الفنان أن يثبت جدارته على إيصال الرسائل الفلسفية إلى المتذوقين من خلالها، فيكون لهذه الرسائل الأثر الحقيقي في تكوين رؤية بصرية مؤثرة لدى المتذوقين لفنه التفاعلي، بلغة حوار الشعر والتشكيل، من خلال تنظيمه لهذه الأسس وفق رؤياه الجمالية والفنية تجلت في إبتكار هذه الدفاتر الفنية المصممة، على حركة تدوريه ديناميكية التركيب أثناء تصفح الأوراق، حيث يحفظ الفنان نصوصاً شعرية لجلال الدين الرومي، وحافظ الشيرازي وغيرهم من الشعراء الصوفية في صفحات الدفاتر الملونة على أنماط مثلثة ودائرية ومعينية وتكعيبية الشكل.وهكذا ظهر التذوق الجمالي عن طريق الشعور والإدراك، من خلال العاطفة والعقل والإرادة، ولا يتم إلا في نطاق الشعور بحرية التصميم الهندسي، والتي تنبع من ثقافة فنية متراكمة في فكر الفنان المبدع غسان غائب، ومن هذا المنعطف بدأنا الحوار معه بنقاش منطقي عن ماهية الأفكار التي يتبناها بصيغة فلسفية وبطرح جمالي فوجهنا له عدة أسئلة ليوضح لنا اللبنات الأساسية التي يستند عليها في بناء أعماله التشكيلية.

• كيف كانت بدايتك مع الفن التشكيلي،وفي أي مرحلة من مراحل مسيرتك الفنية بدأت الإحترافية واستخلصت أسلوبك الخاص بالفن التشكيلي المفاهيمي؟

• كان دخولي معهد الفنون عام 1980م ؛في نفس العام والشهر حين اندلعت الحرب بين العراق وإيران، بدأت خلال تلك الفترة سلسلة أحداث تدهورت فيها الأوضاع ورائحة الموت والمستقبل الغامض والمجهول، وكان هذا جزءًا من المناخ والفضاء الخارجي، للرحم الذي نشأنا فيه طلاب فن، ومن ثم تألقنا فنانين. بدأ إهتمامي في السنين الأولى ينصب على دروس المعهد الأكاديمية المقرره، إضافة إلى القراءات الأدبية و الدراسات حول الفن التي تعتبر مصدر معرفي مهم لتجربتي في سنين المعهد الأخيرة. كانت روح التمرد والتجريب هي السائدة وكنا حريصين على إثبات وجودنا، بالمحاولات الأولى للتجريب تستمد روحها من محيطنا المشبع بأجواء الحرب وتداعياتها، أنجزت عملين وعرضتهم في قاعة كولبنكيان في معرض الشباب 25-10-1985م، كان إهتمامي في تلك المرحلة تجريبيًّا، أعتمدت على إستعارة خامات مستهلكة من المحيط، محاولًا تشكيلها بشكل يتلائم مع مناخ تلك المرحلة مثل : (الحبال – الأسمنت – العلب – الخشب – إلخ) وأنجزت مجموعة كبيرة في تلك الحقبة وتحديدًا في منتصف الثمانينيات، كانت مرحلة منافسة وتحدي مع الذات وصعبة جدًّا؛ وضمن هذا المناخ كنت أميل نحو الأعمال التركيبية ذات النمط التجريبي بشكل خاص، الذي يمنحني حلولًا تتلائم مع ما أحاول التعبير عنه في حينه مثل؛ الحدة والخشونة وكثافة الألوان و كذلك الهشاشة و السيولة على السطوح المتراكمة. وكانت تداعيات الحرب والتصدع والتشرد والهجرة والحصار، كلها شكلت فضاء غير أليف و غير مسالم و مليء بالعدوانية وهذا المناخ ولد ألم عميق لم ينتهي لحد الآن، أدى إلى هتك القيم الإنسانية والفكرية في جسد المجتمع والثقافة بشكل عام، كما هو معلوم أن الفكر والثقافة والفن كائن حي يتأثر بمحيطه سلبًا أو إيجاباً، ومن هنا أنعكس هذا الصدع على أعمالي الفنية بشكل عام من حيث تبنيت مواد لها شخصية قاسية وصلبة وكذلك سطوح رقيقة وشفافة وهشه في أحيان كثيرة.

• ( لتتعلم السر كن شاسعا كالهواء) هي إحدى أشهر النصوص الشعرية لجلال الدين الرومي في بلاغتها تختزن كما هائلاً من معاني الفلسفة الصوفية كيف تفسرها برؤيتك الفكرية ؟ – وإلى ماذا ترمز بالمثلث الهندسي وسلم الألوان في تصميم لوحاتك التشكيلية؟

• تأتي أستعارتي للنصوص الشعرية في وجود رابط روحي وسياق فكري وطاقة جاذبة تحيلني إلى تبني بعض النصوص التي تحمل صور شعرية، تتلائم مع ما أعمل عليه سواءً كان دفتر فني أو بجت مجسم أو لوحة من أعمالي الفنية ذات علاقة متماهية مع الشعر، حاولت أن يكون النص البصري يمثل ذات مستقلة عن ذات النص الشعري، ويكون متحرر من سطوة الشعر، أي بمعني أن لايكون مجرد رسوم توضيحية للشعر، ومن هنا حاولت تبني عنوان أحدى قصائد الرومي ( كن شاسعا كالهواء) لمجموعة من الدفاتر الفنية التي عملت عليها كذلك أختار الكاتب الدكتور حاتم الصكر ( كن شاسعا كالهواء) عنوانًا لكتابه عن دفاتري الشعرية، حاولت تبني روح العنوان وتجريده من سياقه الثقافي والرمزي، والإكتفاء بتمثيل روح السياق الحركي للنص الذي يدعو للإرتقاء والسمو من خلال شكل المثلث الهرمي وشكل السلم أو الدرج، كلاهما لهما تأثير مادي ومعرفي، يدعو للإرتقاء الذي شهدته حياة الإنسان بصروح معمارية مختلفة ذات طقس روحاني ديني إجتماعي ومعماري هندسي مثل ( الأهرامات في مصر الزقورات، صروح الازتيك والمايا،.. الخ ) شكلت هذه الفلسفة وعي ضمني للصعود والنزول في رمزية هيئة المثلث. ولهذا اقترن المثلث الضمني والفعلي بسياق روحي ومادي (معماري) يوحي بالإمتداد والعمق والجلالة والسمو، وهذا الإحساس بالتجلي والسمو لمسته عندما كنت بعمر ١٢سنة في زيارة مع العائلة إلى أهرامات مصر، ومن داخل الهرم وفي طريق الصعود إلى غرفة فرعون في قمة الهرم كان الصعود بطريقة تجبر الشخص على الإنحناء، وذلك لإنخفاض السقف وحتى النزول يكون بشكل منحني يشير للعودة الى الوراء كنوع من التبجيل لفرعون.- إن الشكل الرمزي للمثلث كمصدر روحي ومعرفي في مشروعي الفني (كن شاسعا كالهواء) لما يمثله من بساطة واكتمال وعمق يوحي بوحدة بصرية في جوهره، وحاولت إستخدام الدرج على هيئة مصطبات تجسيدًا ماديًا مضاف لفكرة الإرتقاء و النزول بحركة ديناميكية تشحن العمل بحس معماري وعمق مضاف يحيله إلى سمو الذات الإنسانية.

• ما ميزة القصائد الشعرية التي تجذبك وتثير خيالكَ في أبتكار أعمالك التشكيلية؟

• تأتي استعارتي لنصوص الشعر بشكل عام موائمة مع رؤيتي الفكرية وطاقتها الجاذبة تحيلني إلى تبنيها والعمل عليها من أجل الوصول إلى صيغة وجنس فني مغاير وجديد و ذات مستقلة عن مصدرها الأصلي.

• ما هي التقنيات الحديثة والمواد الجافة التي تستخدمها في الرسم لتجعل فيها نوع من الحياة؟

• أستخدمت التقنيات الحديثة في أبتكار الدفاتر التي منحتني الحرية في تداول الفن المفاهيمي خارج نطاق اللوحة التقليدية، من حيث الشكل العام أو الحجم أو المواد وكل دفتر له شخصية مستقلة وله كيان مختلف من حيث التداول وإخراج العمل، حاولت أستعارت مواد (كـ الجرائد- الأسلاك – الخشب – الكونكريت – الفوتو.. الخ) ومواد ذات مواصفات خشنة وناعمة، والتي من شأنها أن تحيلنا إلى جو درامي لا يخلو من كتل متصارعة تارة ومنسجمة تارة أخرى .

• ماذا يجب عليك كـ فنان أن تقدمه من إنجازات بعد كل تلك الكوارث البيئية والأوبئة والجوائح والحروب والنزاعات التي أجتاحت دول العالم وخصوصاً في العراق و الوطن العربي؟

• الطابع العام لتجربتي الفنية له مساس وجداني وإنساني وهذا الإهتمام من هذا الجانب لم يغب عن أعمالي بشكل عام، بإعتقادي يجب على الفنان أن يحمل موقف يكون على سياق فكري – ثقافي – جمالي – سياسي – بيئي – إنساني – اجتماعي – الخ. ومن هنا حاولت خلق مفهوم وسياق عام ينتقل من الهامش إلى المركز، وذلك من خلال التخلص من المزاج المتمركز حول الذات المنفصلة إلى سياق أكثر سعة وشمولية بالذات الجمعية، ذو هاجس بيئي وإنساني، أي الإنتقال من ( أنا إلى نحن ) هاجس جمعي ولهذا أخذ العمل الفني سياق فلسفي نتج عنه رؤية بصرية تعكس الزمن والفضاء الذي ينتج به العمل، ولهذا أرى إن العمل الفني أشبه بالكائن الحي له مسارات و سياق معرفي وفني متغير وقابل لإنتاج قيم جمالية و مفاهيم فكرية بإستمرار. إن في عالم الفن دائماً هناك جزء غامض يمكن أكتشافه، و عمل شيءٍ جديد وأخذت أسلط الضوء على مشاكل تمس عالمنا اليوم، مثل؛ التلوث البيئي و تداعيات الحروب والكوارث نتجت عنها مشكلة اللاجئون، لأني عشت تجربة اللجوء وخضت معاناتها فالحرب والإضطهاد السياسي والعنف والمجاعة والتطهير العرقي ..إلخ؛ كانت سبباً في نزوح وتشرد الآلاف من البشر على مر التاريخ إلى يومنا هذا والذي يزداد يوماً بعد يوم، رغم أن الكثير من هؤلاء اللاجئين يموتون جراء قسوة وشراسة رحلة اللجوء في البحر والجبال والصحاري القاحلة و خطورة إجتياز حدود الدول بشكل غير شرعي، وإستغلال المهربين لهم بقوارب مثقوبة وغير صالحة للإبحار في المحيطات والبحار مما يؤدي إلى غرقهم جميعاً، وهؤلاء اللاجئين تركوا كل شيء خلفهم، في مغامرة جديدة مجبرين على التعامل معها مثل المحيط المختلف والأنظمة المغايرة واللغة وظروف التمييز العنصري والتعليم والعمل الخ، رحلة تحتاج شجاعة في التأقلم مع الحياة الجديدة.

• إلى ماذا تهدف بمشاريعك الفنية – الثقافية؟

• إن مشروعي( رحلة السنونو ) يهدف إلى توثيق وتسليط الضوء على معاناة هؤلاء اللاجئين في رحلتهم إلى بلد اللجوء أو الحيلولة إلى تفادي الحروب والصراعات الغير مثمرة، التي تشجع الناس على خيار اللجوء وفي مسار أخر أخذت مشكلات البيئة حيز كبير من إهتمامي حيث أقمت معرض في عمان قاعة الأورفلي 2022م  عنوانه ( كوكبنا اليوم –  فكر بالأخضر ) تناول تجربتي الشخصية فيما يتعلق بالبيئة عبرت من خلاله عن قلقي العميق واهتمامي بالتهديد المزعج الذي يواجه كوكبنا، والذي يتمثل في الإنحباس الحراري العالمي وتأثير تغير المناخ. لقد أثر تدهور النظم البيئية الهشة في ثلاث مناطق مختلفة حول العالم شهدتها بنفسي الأولى كانت العراق؛ حيث لعبت الحروب التي صنعها الإنسان الدور المؤسف في تدمير بيئة البلاد وشمل ذلك حرائق النفط، وقطع الأشجار، وتلوث التربة باليورانيوم المنضب وتجفيف النهرين العظيمين، دجلة والفرات. الجزء الثاني من العالم هو السويد. في عام 2007م، قضيت عامًا واحدًا طالب لجوء، سمعت من السكان المحليين وشعرت بالتغييرات التي حدثت على مدى السنوات الأخيرة في تضاريس المنطقة من ذوبان الجليد إلى مناطق التندرا المحاذية للقطب الشمالي، الجزء الأخير هو كاليفورنيا؛ حيث أقيم وأعمل هناك لقد أدى تغير المناخ إلى تغيرات شديدة في درجات الحرارة، مما تسبب في حرائق مدمرة نتيجة للإستغلال المكثف للأرض ومواردها، فضلاً عن قتل الحيوانات المهددة بالإنقراض وحرق الغابات التي لا يمكن تعويضها. في هذه الممارسة حاولت تحويل إهتمامي من قضاياي الشخصية إلى مشاكل أوسع نطاقاً تواجه البشرية اليوم، في محاولة لجذب الإنتباه إلى حجم المشكلة وخلق وعي عام بما نفعله نحن البشر بكوكبنا. لقد استخدمت مواد مؤثرة من الأرض، على سبيل المثال؛ جذوع الأشجار والحيوانات الميتة والنفايات الصناعية.

• كلماتكَ المعبرة عن مشاعرك الإنسانية لمن تهديها في خاتمة الحوار؟

• شكرا لكِ أستاذة دنيا لهذا الحوار الجميل ولجهودكِ الرائعة؛ في ختام هذا الحوار أحب أن أترك رسالة لمن يقراها أرجو أن يعم السلام والطمأنينة العالم وتقل نسبة العنف، و قسوة الحروب وتداعياتها إلى أقصى حد، من أجل أن يكون عالم نظيف وأخضر ومثالي لنعيش فيه بسلام، خالي من التلوث والتدهور البيئي في منظومة إيكولوجية حيوية متكاملة. وكذلك أن نهتم و نستثمر اللحظة الراهنة (الآن) لأنها هي الحقيقة الوحيدة التي بين أيدينا الماضي رحل من غير عودة، والمستقبل غامض ومجهول أرجو إستثمار اللحظة (الآن) ومواصلة الإرتقاء بإنسانيتنا لأنها جزءاً أساسيًا من منظومة كونية متكاملة.

زر الذهاب إلى الأعلى