“ثنائية الغراب والضمير: قراءة فلسفية في رؤية الناقدة دنيا صاحب”

"الرمزية والسريالية في لوحة "لبحث عن الضمير" : للفنان التشكيلي د. علاء بشير"

” التحليل البصري”

العناصر الرئيسية في اللوحة :
يظهر في اللوحة ” البحث عن الضمير” للفنان د.علاء بشير، مستنداً إلى أبعاد فنية، سريالية، اجتماعية، فلسفية، وروحية. يعبر عن شكل إنساني غامض يدمج بين ملامح الإنسان اللاوعي الغافل والطبيعة أو الكائنات غير البشرية ما يخلق انطباعاً بسريالية عميقة. يبدو الرأس أشبه بكائن يتحول أو ينسجم مع أحد عناصر الطبيعة وهو الغراب، ويرمز الرأس الإنساني إلى الإنفصال أو التشوه النفسي، يبدو وكأنه في حالة تحول أو انصهار مع (عنصر غامض)، مما يعكس صراعاً داخلياً بين الذات الإنسانية والهويات الأخرى التي تؤثر فيه. والشكل المشوه يعكس فكرة الإنسان الذي فقد توازنه النفسي أو الأخلاقي ويظهر في حالة اضطراب نفسي. وهذا التشويه يمكن قراءته كرمز لفقدان الضمير في تداخله مع المؤثرات الخارجية، سواء كانت سياسية، ثقافية، اجتماعية، الأيديولوجيات الفكرية الخارجه عن نظام الله سبحانه وتعالى وهو الكتاب المقدس المنزل من الله ( القرآن الكريم) في باطنه مناهج الديانات السماوية الأربعة.

اللون والتقنية :
يعتمد الفنان على الخطوط السوداء والزرقاء بكثافة لإبراز حالة من الصراع الداخلي. اللون الأسود المهيمن في اللوحة يعبر عن الغموض، الصراع، والمأساة. كذلك يوحي بالفراغ أو الإنعدام ما يرمز إلى حالة الضياع الداخلي،إستخدام اللون الأزرق يعكس العمق، التأمل، وربما الحزن أو الإضطراب يضيف بعداً عاطفياً عميقاً يرتبط بالحزن، التأمل، الندم، تأنيب الضمير. كما يعكس الأزرق بعداً روحياً، حيث يرمز إلى البحث عن السلام النفسي المفقود أو التوازن الداخلي. أما الخطوط العشوائية الملتفة حول العنق والرأس فتدل على قيود أو تشابكات عقلية ونفسية. تضيف إحساساً بالتمزق الداخلي، حيث تشير إلى محاولات العقل البشري لفهم ذات الإنسان وسط حالة من الفوضى.

الحركة والخطوط :
الخطوط العشوائية والمتحركة توحي بحالة من الديناميكية والتوتر، وكأن الشخصية تعيش صراعاً داخلياً أو عملية تحول مستمرة الإنسيابية في الخطوط تجعل المشاهد يشعر وكأن اللوحة تعكس حالة ذهنية غير مستقرة. (الخطوط غير المنتظمة) في اللوحة تعكس صراعات داخلية لا تنتهي، كأنها تشير إلى الأفكار المتضاربة التي تدور في ذهن الإنسان. والخطوط التي تلتف حول العنق والرأس توحي بالقيود التي تفرضها النفس على نفسها أو التي تفرضها الضغوط الإجتماعية والسياسية و الثقافية و الأقتصادية… الخ) وهذه الخطوط تعبر عن حالة اختناق فكري أو عاطفي.

التعبير عن الصراع الداخلي :
الخطوط المتشابكة والمتحركة تخلق إحساساً بصراع داخلي مستمر داخل الشخصية. هذا الصراع يعكس المحاولات المتكررة للعثور على الضمير المفقود، ولكن هذه المحاولات تبدو عبثية أو غير مثمرة بسبب التشوهات النفسية والروحية.

الإنسيابية والتوتر :
إستخدام الخطوط بطريقة ديناميكية يعبر عن الشعور بالحركة والتغيير، وكأن اللوحة تجسد لحظة ” التحول” الجذري أو ” البحث عن” الضمير” هنا لا يفهم ككيان ثابت، بل كشيء يتشكل ويتغير بإستمرار.

التفسير السيريالي :

الرمزية العامة :
العنوان ” البحث عن الضمير” يعطي مفتاحاً لفهم اللوحة. السيريالية غالباً ما تستخدم لإستكشاف العقل الباطن والصراعات النفسية. هنا، يظهر أن الفنان يطرح تساؤلاً حول الضمير الإنساني وموقعه في ظل التشوهات التي قد تصيبه بسبب الصراعات الداخلية أو الظروف الخارجية. السريالية في هذه اللوحة تكشف عن العقل الباطن ومكونات النفس البشرية. وعنوان ” اللوحة ” البحث عن الضمير” يعبر عن موضوع فلسفي عميق : كيف يتحرك الإنسان بين الأخلاق وعقله اللاوعي؟. “الغراب”، الذي يحتل جزءاًً من الرأس، يرمز إلى الضمير الذي يشبه ” ظلاً ” دائماً يطارد الإنسان، لكنه قد يصبح مشوهاً أو صامتاً في دهاليز الحيرة بفعل تجارب الحياة القاسية.

الرأس كرمز للعقل والروح :
التحولات في الرأس قد تكون رمزاً لفقدان الضمير أو محاولات لإعادة تشكيله. ” الشكل غير المكتمل للرأس يوحي بأن الضمير ليس ثابتاً بل يتغير ويتأثر بالعوامل المحيطة. “الرأس الإنساني هو مصدر التفكير والوعي، يبدو في حالة تشوه مايعبر عن فقدان المعايير الأخلاقية و الأمراض النفسية والتلوث الروحي، هذا التشوه يعبر عن سؤال وجودي : هل الضمير هو نتيجة حالة لتجربة الإنسان، أم أنه يتأثر بتراكمات الأحداث والتجارب في الحياة.؟ أم هو نابع من الفطرة السليمة للإنسان.؟ إن المزج بين ملامح الإنسان وعناصر الطبيعة (الغراب) يعبر عن وحدة الكائنات البشرية مع الطبيعة هل هي قادرة على إعادة تشكيل ضمير الإنسان.؟

الغموض والبحث :
اللوحة تقدم حالة بحث مستمرة عن جوهر الإنسان، ربما يعكس ذلك ضياع الضمير الإنساني في العالم الحديث، أو فقدان البوصلة الأخلاقية بسبب الضغوط المجتمعية والسياسية الثقافية، والاقتصادية، الغموض في اللوحة يعكس حالة البحث عن شيء مفقود (الضمير). السيريالية هنا تبرز كوسيلة للتعبير عن شعور غامض، بعدم اكتمال و نضج عقل الإنسان وهذه الحالة تعكس الصراع الدائم بين الذات الكاملة المثالية ( التي تمتلك ضميراً واضحاً ) والذات الناقصة غير مثالية ( التي تبحث عنه وسط التشوهات ).

السياق الثقافي والإجتماعي :

الهوية العراقية :
في سياق العراق وما عاناه من حروب وأزمات وصراعات طائفية، قد تكون اللوحة انعكاساً لفقدان الضمير الجامعي في ظل الخراب والدمار جراء الحروب والصراعات التي دارت خلال السنوات المنصرمة.”الفنان قد يكون يوثق بشكل غير مباشر حالة الشعب العراقي الذي يبحث عن ذاته الضائعة وسط الفوضى العارمة.” اللوحة تعبر عن حالة الهوية العراقية التي تعرضت للتشوه بسبب الحروب والأزمات والصراعات.” والرأس المشوه والمهشم يمثل الإنسان العراقي الذي يعاني من صدمة جماعية، بينما الغراب يرمز إلى الضمير الجماعي الذي يحاول العودة أو الظهور مجدداً. الفن هنا يصبح شهادة على معاناة الشعب، حيث الضمير المفقود يرمز إلى الإنقطاع بين الماضي والحاضر، وضياع المستقبل وسط التراكمات السلبية، و بين السلام الداخلي والحروب الداخلية و الخارجية.

البعد الفلسفي :
اللوحة قد ترتبط بفكره الفيلسوف جان بول سارتر عن الوجودية، حيث الإنسان مسؤول عن خلق ضميره الخاص. هنا يبدو أن الفنان يدعو إلى استعادة الضمير عبر مواجهة الصراعات الداخليةو الداخلية.
الضمير هنا يمكن تفسيره كجزء من التجربة الإنسانية المشتركة، حيث يصبح فقدانه مشكلة عالمية، وجماعية وليست مجرد أزمة فردية او محلية. اللوحة تلمح إلى فكرة ” إعادة تشكيل الضمير” مما يعكس وجهة نظر وجودية مستوحاة من الفيلسوف سارتر : الإنسان هو المسؤول الوحيد عن خلق أخلاقه وضوابطه، حتى في وسط الفوضى.

البعد الفلسفي والأخلاقي :

الصراع بين الإنسان والطبيعة الأخلاقية :
الغراب في القصة القرآنية لقابيل وهابيل كان رمزا لفهم الإنسان الأول للضمير الأخلاقي. في اللوحة يبدو الغراب وكأنه يحاول إيقاظ الضمير داخل الإنسان، ولكن هذه المحاولات تتعقد بسبب تشوه النفس أو اضطرابها. الصراع هنا يعبر عن الفجوة بين الأخلاق الفطرية والضمير المتعلم و الضمير الميت، حيث يتأثر بمظاهر المجتمع والظروف المحيطة.

قراءة وجودية :
اللوحة يمكن قراءتها كدعوة للإنسان لإعادة النظر في أفعاله وأخلاقياته. الضمير هنا لا يمكن استعادته إلا من خلال مواجهة النفس بشجاعة وإعادة تقييم القيم الإنسانية والأخلاقية في الحالات الفردية والجامعية.

الإستنتاج :
لوحة ” البحث عن الضمير” هي عمل سريالي غني بالرموز والتفسيرات. عبر أستخدام رمزية الغراب والرأس المشوه، يعبر الفنان د. علاء بشير عن صراع الإنسان مع ضميره، وسط عالم مليء بالفوضى والتشوهات اللوحة تطرح تساؤلات فلسفية عميقة : كيف يمكن للإنسان أن يستعيد ضميره المفقود ؟ وهل يمكن للتجربة الفردية و الجماعية أن تعيد تشكيل الضمير الإنساني من جديد.؟

اللوحة تعكس رؤية عميقة في التوترات النفسية والوجودية للإنسان، حيث يتلاشى التمييز بين الإنسان والكائنات الأخرى أو الطبيعة عبر السريالية، يطرح الفنان تساؤلاً وجودياً عن ماهية الضمير وكيف يمكن استعاده في عالم مليء بالتشوهات الأخلاقية والروحية والفكرية. هذه العمل الفني ليس مجرد لوحة، بل هو رحلة تأملية في النفس البشرية وصراعاتها مع ذاتها والعوامل المحيطة بها من الداخل والخارج ، وجسر بين الفرد والمجتمع، وبين الماضي والحاضر في محاولة لإيجاد المعنى الحقيقي لوجود الانسان وسط التشوهات.

( الجزء 2 )

“بين السريالية والصوفية: قراءة فلسفية في لوحة ‘البحث عن الضمير’ لد. علاء بشير”

إن ربط رمزية الغراب في لوحة ” البحث عن الضمير” مع قصة قابيل وهابيل تفتح أفق جديد لفهم العمل من المنظور السريالي والفكر الصوفي، “بـروحانية، دينية اخلاقية، إنسانية” بمضمون عميق، في القصة القرآنية، حيث لعب الغراب دوراً محورياً في تعليم قابيل كيفية دفن جثة أخيه بعد أن قتله، مما جعله رمزاً لوعي الإنسان وتأنيب الضمير.

الغراب كمعلم للضمير :
في سياق اللوحة، وجود الغراب المرتبط برأس الإنسان يشير إلى استحضار تلك اللحظة الرمزية في قصة قابيل وهابيل، حيث كان الغراب الوسيط الذي أظهر لقابيل، خطأه الأخلاقي.’ الغراب هنا يبدو في اللوحة كأنه جزء لا يتجزأ من الرأس الإنساني، ما يعكس حالة الوعي أو ” الضمير” الذي يسعى الإنسان لإستعادته أو فهمه.” وفي قصة قابيل وهابيل، يبرز الغراب كمعلم قدم لقابيل درساً في الأخلاق والمسؤولية، عندما أراه الله درس في الأخلاق، حين بعث له الغراب يحفر في الأرض وعلمه كيف يدفن جثة أخاه، في لحظة تحمل رمزية عميقة لتطور الضمير البشري. يعكسها الفنان في اللوحة التشكيلية، ويظهر الغراب كجزء من الرأس وكأنه مدمج في مركز التفكير الإنساني، مما يرمز إلى ضرورة التعلم المستمر من رسائل واشارات الله سبحانه وتعالى التي يجب أن تؤخذ بعين الإعتبار من الطبيعة الموجوده حول الإنسان أو المواقف التي تواجه الإنسان في الحياة، وان الله متصل مع الانسان والكائنات الأخرى بقدرته العظيمة. حيث يمدهم بجميع الطاقات الكونية المسخرة لهم، واتصال الخالق بالمخلوقات بصورة كاملة ومباشرة أو بواسطة الرسل أو الملائكة وليس بصورة جزئية أو منقطعة ، فهو يعلم ما يقوم به الإنسان من أعمال الخير أو الشر. و قصة قابيل وهابيل تعكس هذه الرؤية في كتاب الله العزيز القران الكريم،” تعكس صراعاً داخلياً بين العقل ( الذي يخطط ويبرر الأفعال) والضمير ( الذي يحاسب ويذكر بالأخطاء) ” الغراب هنا يعبر عن “صوت الضمير” الذي يتصارع مع غريزة الإنسان. ودمج الغراب بالرأس يشير إلى أن الإنسان لا يمكنه الهروب من آثاره الأخلاقية ؛ الضمير فهو جزء لا يتجزأ من وجوده. ومن خلال هذه العناصر تفتح المجال أمام قراءة فلسفية أعمق من خلال هذه الأسئلة : هل الأخلاق مكتسبة من تعليم الله للإنسان القيم الاخلاقية والانسانية في الكتب السماوية ” أو من طبيعة المجتمع والبيئة المحيطة بالإنسان.؟ أم أنها مغروسة في النفس البشرية بفطرته التي جبل عليها أو عبر التجارب الإنسانية.؟

الغراب وتأنيب الضمير :
كما كان قابيل يتصارع مع شعور الذنب بعد قتل أخيه، فإن الغراب في اللوحة يمكن أن يمثل الضمير المعذب ذلك الصوت الداخلي الذي يذكر الإنسان بأخطائه. والخطوط الملتوية حول الرأس، توحي بحالة من الصراع الداخلي بين محاولة نسيان الخطأ، وبين الشعور الثقيل بالذنب. وكأن الغراب يشير للإنسان بضرورة مواجهة أفعاله الخاطئة، واستعادة ضميره. كما حدث مع قابيل الذي عانى من الشعور بالذنب في ارتكابه جريمة قتل أخيه.

الرؤية الفلسفية :
هذه الفكرة تعزز رمزية الغراب ك” شاهد على الخطأ ” مما يخلق اتصالاً دائماً بين الإنسان وخطاياه أمام الرقيب هو الله سبحانه و تعالى في العمل الفني، هذه الفكرة قد تشير إلى أن الغراب لا يعبر فقط عن تأنيب الضمير لذات الإنسان
لما ارتكبته في الماضي، بل عن استمرارية صراع الضمير مع الذات في الحاضر والمستقبل، حيث أن الإنسان قد يظل محاصراً في حلقات من التذكير والتأنيب. لا يمكن إسقاط هذا البعد من حياة الإنسان المعاصر الذي نسي الحكمة العظيمة في الكتب السماوية ودستور الأسلام القران الكريم، و صار يواجه تحديات أخلاقية يومية قد تقوده إلى صراعات مستنزفة ومدمرة للإنسان وحياته.

الغراب والموت كمعنى رمزي :
في قصة قابيل وهابيل، الغراب أرتبط بالموت حين حفر الأرض لدفن جثة أخيه،” وجود الغراب في اللوحة داخل الرأس الإنساني، قد يرمز إلى التأمل في الموت والذنب كجزء من طبيعة الإنسان. هذا يتماشى مع فكرة أن البحث عن الضمير يبدأ من مواجهة الحقائق القاسية، مثل الموت والخطيئة.” المحور في القصة القرآنية، أن الغراب ارتبط بالموت عندما علم قابيل كيفية دفن أخيه، مما جعل منه رمزاً للصحوة الروحية والوعي بالذات، وبما يقوم به الإنسان من أفعال وأقوال، والحكمة في الموت كجزء من التجربة البشرية. في اللوحة، حين دمج الفنان د. علاء بشير الغراب بالرأس ليعبر عن أن الإنسان يحمل دائماً بوعيه الداخلي فكرة الموت، وأن الضمير قد يستيقظ عند مواجهة فكرة الموت.

الرأس الإنساني والغراب كدمج
بين الفكر والأخلاق :
إن فكرة الموت هنا لا تفهم فقط كحدث للجسد المادي، بل كتجربة رمزية تحفز التفكير الأخلاقي والبحث عن معنى السلام في الحياة. وانتقال روح الإنسان بعد الموته الأولى إلى (عالم الارواح) ( عالم الملكوت). “الخطوط المتشابكة في اللوحة قد تعبر عن الإرتباط بين فكرة الموت والضمير، حيث يبدأ الإنسان في مراجعة أفعاله عندما يدرك حياة الدنيا مؤقته وفانية. ” الغراب، كرمز للموت يصبح أيضاً رمزاً للتحول والبحث عن التجديد إلى التحول الداخلي بعد مواجهة الموت لأول مرة”الغراب المدمج في الرأس يشير إلى الترابط بين الوعي الأخلاقي (الضمير المتعلم) والعقل البشري مثلما أظهر الغراب لقابيل طريقة الحفر في الأرض ليعلمه كيف يدفن جثة أخيه، فهو هنا يمثل الفكر الذي يوجه الإنسان نحو التصرف الأخلاقي الصحيح، حتى بعد الوقوع في الخطأ. كذاك الدمج بين الغراب والرأس في اللوحة يوحي بوحدة الفكر الإنساني والأخلاق ، وكأن الغراب هو المحرك الذي يدفع الإنسان للتأمل في أفعاله وإصلاحها. وهذه العلاقة التبادلية بين العقل. { الذي يتخذ القرارات} الضمير {الذي يحاسب عليها} هي جوهر التجربة الإنسانية.

الرؤية الفلسفية :
الغراب في رأس الإنسان يمكن تفسيره على أنه يمثل التفكير الواعي وغير الواعي. حيث يرمز الغراب إلى ” الأنا ” التي تتصارع مع رغباتها. اللوحة هنا تصبح استعارة للتفاعل بين هذه القوى داخل النفس البشرية. فكما أن الغراب في قصة قابيل عمل كوسيط بين العقل الفطري والتعلم الأخلاقي، فإنه في اللوحة يمثل تلك القوة الداخلية التي تحاول توجيه الإنسان نحو الصواب. يمكن قراءة هذه الفكرة من منظور الآية الكريمة : فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ” (سورة المائدة). ملخص التفسير (قصة قابيل وهابيل) :
بعد أن قتل قابيل أخاه هابيل، لم يكن يعرف ماذا يفعل بجثته، فشعر بالحيرة والندم. في هذا السياق أرسل الله غراباَ يحفر في الأرض ليعلمه طريقة دفن جثة أخاه، ” (تعليم الإنسان من الطبيعة) أظهر الله لقابيل درساَ عملياَ عبر الغراب، مما يعكس أن الطبيعة وما فيها يمكن أن تكون وسيلة لتعليم الإنسان دروساً في الحياة.” (شعور الندم) عند قابيل عندما رأى الغراب يدفن جثة غراب آخر، أدرك عجزه وجهله وشعر بالخزي والندم على ما فعل بأخيه.” (رسالة أخلاقية) في القصة تسلط الضوء على أهمية احترام الميت وكرامته حتى بعد وفاته وتبين أن الإثم يؤدي إلى الندم في الخاتمة، (العبرة) أن الله يوجه الإنسان بطرق متعددة، حتى من خلال أبسط الكائنات. ويُظهر لنا أن كل عمل سيئ يترك أثراَ نفسياَ وأثار جانبية من صعب نسيانها، وأن الطبيعة نفسها تعلمنا الرحمة والحكمة.

الصراع بين الإنسان والطبيعة الأخلاقية :
قصة قابيل وهابيل تعبر عن أول صراع إنساني بين الخير والشر، بين الأخلاق والرغبات الدنيئة. “في اللوحة، الغراب يرمز إلى ذلك التوازن المفقود بين هذين الجانبين. يبدو الغراب وكأنه يحاول إيقاظ الضمير داخل الإنسان الذي يتصارع مع ضعفه لضغائنه من الغيرة والحسد والحقد. وهو صراع متأصل في الطبيعة البشرية. “اللوحة تعيد صياغة هذا الصراع بشكل بصري، حيث يبدو الغراب وكأنه جزء من هذا الصراع الداخلي. الخطوط المتشابكة والمتحركة تعكس التوتر بين الأخلاق والرغبات النفس الأمارة بالسوء، وبين النزعة الإنسانية للتعلم والنزعة الغريزية للتدمير.
“الغراب كرمز للطبيعة يقدم تذكيراً دائماً بأن الإنسان جزء من نظام أكبر وهو نظام وحدة الوجود مع الله سبحانه تعالى. “في قصة قابيل كان الغراب هو المعلم الأول للإنسان، “ويمثل الفنان د. علاء بشير في لوحته الغراب وكأنه يحاول يفرض وجوده على الإنسان، مما يعكس صعوبة تصالح الإنسان مع طبيعته الأخلاقية. هذا الصراع قد يقرأ كتعليق على الحالة الإنسانية في العصر الحديث، حيث يواجه الإنسان تحديات أخلاقية متزايدة نتيجة التطور التكنولوجي والصراعات السياسية والإجتماعية، والإقتصادية والتلوث الفكري والثقافي والبيئي، والغراب هنا يدعو الإنسان إلى استعادة علاقته بخالقه عز وجل ورجوع الإنسان إلى الحكمة المقدسة في الكتب السماوية والقران الكريم ، واسترداد أصل نشأته الأولى الفطرة السليمة التي جبل عليها عن طريق التزكية والتطهير الذي يوجد في علوم الحقيقة والشريعة في القران الكريم وتصحيح الإنسان علاقته مع الطبيعة والقيم الدينية والأخلاقية والإنسانية التي فقدها في زحمة الحياة الحديثة.

الاستنتاج :
من خلال إستعارة رمزية الغراب المستوحاة من قصة قابيل وهابيل على اللوحة، يتضح أن الفنان د. علاء بشير يعالج موضوعاً إنسانياً عميقاً : الضمير كعنصر وجودي نابع من مواجهة الأخطاء والتعلم منها.
الغراب هنا ليس مجرد كائن، بل هو تجسيد للدرس الأخلاقي والبحث عن الذات وسط صراعات الحياة تماماً كما كان رمزاً للتعلم وتأنيب الضمير في القصة الدينية في القران الكريم.
والعبرة من رمزية الغراب في اللوحة، هو المعلم الأول للإنسان والشاهد الوحيد على أول جريمة، كما إن الغراب شاهد على أول جريمة في تاريخ البشرية، وهي من فعل الرجل وليس المرأة . هل هذه إشارة إلى أن المرأة تلد الحياة والرجل يسلب الحياة.؟
هل هذا قدر الإنسان أن يعيش صراع الغريزة والغواية.؟
ويقدم الفنان د. علاء بشير رؤية فلسفية عميقة عن الضمير الإنساني حيث يستخدم الغراب كرابط رمزي بين العقل والأخلاق وبين الإنسان والطبيعة، عبر استلهام رمزية الغراب من قصة قابيل و هابيل، تصبح اللوحة تأملاً بصرياً حول معنى الضمير، وكيف يتشكل من خلال التجارب الإنسانية، التي تجمع بين الموت، الذنب، التعلم، وتأنيب الضمير، والتحول. وهذه المحاور الفلسفية توكد أن اللوحة ليست مجرد عمل فني، بل هي رحلة فكرية، ثقافية أخلاقية، وروحية تستفز المشاهد للتأمل في صراعاته الداخلية وإعادة النظر في علاقته مع الله سبحانه تعالى ومع ذاته الإنسانية ومع العالم.

في أروقة الضمير : حواري مع لوحة د. علاء بشير
في أعماقِ رأس مُهشم ، تتشابَكُ الخُطوطُ كالأشواكِ
تَتراقَصُ في أروقةِ الظّلالِ الزَّرقاءِ،
حيثُ يَصطَخبُ الصَّمتُ معَ أنينِ الأرواحِ

أيُّها الضَّميرُ المُفقود،
يا مَن صِرتَ غَيمَةً تُطارِدُها رِياحُ الصِّراع،
أفي سِجونِ الذِّكرياتِ تَسكُنُ؟
أم في مُستنقَعاتِ الأحلامِ الضَّائعةِ تَسبَحُ؟

الرُّؤوسُ تَتماهى معَ جُذورِ الأرضِ،
تَتَحوَّلُ إلى فُروعٍ بلا مَلامِح،
كأنَّها شَجرٌ يَبحثُ عن ثَمرةِ الحقيقةِ.

يا مَن ضاعَ في غاباتِ الضَّجيج،
تَلوَّنَت خُطوطُك بالسَّوادِ والزَّرقة،
كأنَّكَ تَصرُخُ بلا صَوتٍ:
“أينَ أنتَ، أيُّها النُّورُ الدَّفين؟”

القيودُ تَلتَفُّ حَولَ عُنُقِ الحُلمِ،
لكنَّ الرُّوحَ تَسافر في مَساحاتِ الغَيبِ،
تَفتِّشُ عن ضَميرٍ أُحيلَ إلى رُكامِ الخَوفِ والندم.

يا إنسانَ اليومِ،
أمَا زِلتَ تَسمَعُ خَطواتِ ضَميرِكَ المُثقَلِ؟
أمَا زِلتَ تُلامِسُ وَجهَ الحَقيقةِ في مِرآةِ التَّشوُّه؟

البحثُ طَويلٌ كطُرقِ الرِّيح،
لكنَّكَ إن سِرتَ في أَزقَّةِ النَّفسِ،
سَتُدرِكُ أنَّ الضَّميرَ ليسَ غائباً،
إنَّهُ أنتَ، في نَفسِكَ العَميقةِ، يَنتَظرُ.

 

زر الذهاب إلى الأعلى