“نَفَحَاتُ الصَّبَا : رِيحٌ مِنَ الغَيْبِ”
بقلم: الأديبة دنيا صاحب - العراق
القصيدة بقلم: الشاعرة دنيا صاحب – العراق
مِنْ حَيْثُ لَا يُرَى الغَيب،
مِنْ حَيْثُ يَسْكُنُ السِّرُّ في نْبُضُ القَلبِ،
هَبَّتْ نَفْحَةٌ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا سَلاَماً لَا يُشْبِهُهُ سَلاَمٌ.
رِيحٌ لَا تَعْرِفُ الحُدُودَ،
تَجْتَازُ الحُجُبَ، وَتَمَسُّ القُلُوبَ
بِخِفَّةِ عُصْفُورٍ يَحُطُّ عَلَى غُصْنِ الرُّوحِ
مِنْ تَحْتِ العَرْشِ،
جَاءَتْ تَحْمِلُ وَصْلًا إِلَهِياً، أَمَاناً سَمَاوِيّاً
لَا يَنَالُهُ إِلَّا مَنْ طَرَقَ أَبْوَابَ الحُبِّ الإلهي، وَتَرَنَّمَ بِأَسْمَاءِ اللَّـهِ سِراً وَجَهْراً.
يَا رَيحَ الصَّبَا،
أَيَّتُهَا الزَّائِرَةُ مِنْ عَوَالِمِ النُّورِ،
كَيْفَ تُحيِينَ القُلُوبَ الَّتِي أَضْنَاهَا الضَّيَاعُ؟
كَيْفَ تُرْوِينَ عَطَشَ الأَرْوَاحِ وَهِيَ تَهِيمُ فِي بَرَارِي الوَجْدِ؟
لَكِ فِي الهَوَاءِ سِرٌّ الوجُود، وَفِي النَّسِيمِ دُعَاءُ الصَّالِحِينَ.كُلُّ مَنْ أَصَابَهُ عِطْرُكِ، انْتَشَى، وَكُلُّ مَنْ عَانَقَهُ نَسيمُكِ ، عَرَفَ مَعْنَى الحَيَاةِ.
يَا رِيحَ السَّمَاءِ،
يَا هَدِيَّةَ الرَّحْمَنِ، فِيكِ رَاحَةٌ لَا تُوصَفُ، مُنَاجَاةٌ لَا يَشْعُرُ بِهَا إِلَّا قُلُوبُ العَارِفِينَ.
حِينَمَا تَهُبِّينَ، يَنْكَشِفُ الحِجَابُ بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ،فَتَسْرِي الأَرْوَاحُ نَحْوَ أُفُقٍ لَا يُدْرِكُهُ الزَّمَنُ.تَمْضِي بِلَا خَوْفٍ، بِلَا تَعَبٍ،
وَكَأَنَّهَا تَعُودُ إِلَى وَطَنِهَا الأَوَّلِ، إِلَى عَرْشِ الأرواح حيث يُصبح الصمت نغماً، والعدم حياةً، وتُشرق الأسرار في كَنفِ عَلامِ الغُيوب،
يَا نَفْحَةَ الصَّبَا،
خُذِي مَعَكِ أَثْقَالَنَا،
وَانْثُرِيهَا فِي فَضَاءِ النِّسْيَانِ، وَامْنَحِينَا خِفَّةً نَعْلُو بِهَا إلى فَضاءِ الغَيبْ. اجْعَلِي أَرْوَاحَنَا كَأَجْنِحَةِ الطَّيْرِ فِي رِحْلَتِهَا نَحْوَ النُّورِ، لَا تَخَافُ مِنَ السُّقُوطِ، وَلَا تَنْظُرُ إِلَى الوَرَاءِ.
فِيكِ سَكِينَةٌ تَهدي الحَائِرِينَ، وَفِيكِ سِرُّ المُحِبِّينَ.مَنْ شَمَّ عَبِيرَكِ عَرَفَ أَنَّ اللَّـهَ أَقْرَبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ،أَقْرَبُ مِنَ النَّفَسِ الَّتي تسْكُنُنَا.
وَمَنْ تَذَوَّقَ حَلَاوَةَ مُرُورِكِ،صَارَ يُرَدِّدُ بِلَا انْقِطَاعٍ: “يَا مَنْ أَرْسَلَ الرِّيحَ بُشْرَى، أَرْسِلْنِي إِلَيْكَ”.
يَا نَفَحَاتِ العَرْشِ،
امْضِي فِي دُرُوبِنَا المُظْلِمَةِ،
كُونِي لنا النور الَّذِي يُعِيدُ تَرْتِيبَ فَوْضَانَا.
أَحْيِي فِينَا ذَلِكَ النَّقَاءَ الَّذِي وُلِدْنَا بِهِ،
وَارْفَعِينَا نَحْوَ السَمَاءٍ لَا يَسْكُنُهَا إِلَّا الصَّادِقُونَ.
حِينَمَا تَهُبِّينَ، نُدْرِكُ أَنَّ لِلْحُبِّ طَعْمًاً آخَرَ،
طَعْماً لَا يُدْرَكُ إِلَّا حِينَمَا نَتْرُكُ كُلَّ شَيْءٍ خَلْفَنَا، وَنَمْضِي نَحْوَ الوَاحِدِ الأحَّد.
يَا رَيحَ الصَّبَا،
فِيكِ حَنِينٌ يُوقِظُ النَّائِمِينَ،
وَفِيكِ وَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ،
وَفِيكِ سَلَامٌ يَحْمِلُنَا إِلَى حَيْثُ لَا أَلَمَ وَلَا خَوْفَ.
هَبِّي عَلَيْنَا دَائِماً،وَكُونِي لَنَا ذِكْرَى أَنَّنَا لَمْ نُخْلَقْ إِلَّا لِنُحَبَّ، وَلَمْ نُحَبَّ إِلَّا لِنَعُودَ إلى الله. وَمَهْجَةُ قُلُوبِنَا رَاغِبَةٌ إِلَيْهِ.
ألوان الروح : رحلة بين رمزية الألوان ونفحات الأدب الصوفي في لوحة نصير شمة وقصيدة دنيا صاحب.
تتداخل الفنون المختلفة من الموسيقى، الشعر و الرسم في محاكاة الروح البشرية. هذه الدراسة تسلط الضوء على التناغم بين اللوحة الفنية التي أبدعها الفنان والموسيقار نصير شمة وبين قصيدة “نفحات الصبا” للشاعرة دنيا صاحب ذلك من خلال تحليل ألوان اللوحة، والتأملات الفلسفية، والتواصل بين الفن التشكيلي التجريدي والشعر الصوفي في سياق سيكولوجية الألوان والتجربة الروحية.
” تحليل اللوحة: التفاعل بين الألوان والأبعاد الروحية”
اللوحة التي أبدعها الفنان نصير شمة تتمحور حول الألوان الأخضر، الرمادي، الأبيض التي تحمل دلالات سيكولوجية وفلسفة روحية عميقة. اللون الأخضر، الذي يرتبط بالسلام والنماء، يعتبر رمزاً للسلام الداخلي والطمأنينة. الأخضر ليس مجرد لون، بل هو تعبير عن رحلة الروح في سعيها نحو الحرية والسلام، ويعكس النمو الروحي والتواصل بين الذات والطبيعة وما وراءها.
“اللون الرمادي”، من جهة أخرى، يضيف بُعداً من الغموض والتساؤل. يمزج بين النور والظلام، و التظليل باللون الرمادي يعكس حالة النماء لوعي ومدارك الإنسان بين المعقول والمجهول، وبين الرغبة في الفهم الكامل للوجود والإنفتاح على الغيب. في هذه اللوحة، يبرز الرمادي ليس فقط كـ لون، بل كـ عنصر يعبر عن تأملات روحية عميقة حيث يدل على بعض المعاني غير مرئية، مما يدفع المشاهد للتفكير في الروحانيات والنفس البشرية وعلاقة الروح بعلم الغيب.
اللون الأبيض : في سياق اللوحة يبدو أن اللون الأبيض والإضاءة يعبران عن لحظة كشف أو تجربة روحية وجدانية تتجلى من خلال الموسيقى. يمكن ربط ذلك بمفهوم “السماع” في الصوفية، حيث تصبح الموسيقى وسيلة للوصول إلى الحقيقة الإلهية. اللوحة الموسيقية تبدو وكأنها مرآة لهذا الكشف الداخلي، حيث ينساب اللون الأبيض ليزيل الغموض والجهل والظلام والضياع نحو “إدراك وحدة الوجود مع الله يُضيء الطريق نحو الحقيقة المطلقة، حيث يكون الله هو الأصل الجامع لكل وجود.”من خلال المزج بين هذه الألوان، نجد أن اللوحة تخلق تناغماً بين عالمين متناقضين، ظاهرياً وباطناً، ولكنهما في الحقيقة يمثلان التعايش بين الوجود المادي والروحاني. هذا التوازن الدقيق يعكس مفهوم التلاقي بين الجسد والروح في إطار تجربة روحية تأملية، حيث يسعى الإنسان لفهم أعمق لوجوده وعلاقته بالعالم الظاهر والعالم المخفي ماوراء الطبيعة ميتافيزيقيا.
“تفسير فلسفي للألوان وتفاعلها مع النص الشعري”
فيما يتعلق بالقصيدة “نفحات الصبا” للشاعرة دنيا صاحب، نجد أن النص الشعري يعكس تجربة روحية مشابهة لتلك التي تنطوي عليها اللوحة الفنية للفنان نصير شمة. القصيدة تتناول فكرة النفحات السماوية، تلك التي لا يمكن إدراكها بحواسنا المادية، لكنها تصل إلى الروح لتمنحها السلام الداخلي والسكينة. في هذا السياق، نجد أن الألوان التي استخدمها الفنان نصير شمة تعكس، على نحو رمزي، الأخضر يرمز إلى الطمأنينة الروحية، بينما الرمادي يمثل الطريق الصوفي، الذي يبدأ في الغموض والمجهول نحو السمو والإرتقاء الروحي وذلك يتحقق بخلوة النفس والروح مع الله ليتدرج إلى قمة الهرم المثلث يعتبر مصدر الطاقة والنور العظيم المرسوم في وسط اللوحة التشكيلية.
يمثل اللون الأبيض في الفلسفة الصوفية النقاء والطهارة الروحية، وهو اللون الذي يرمز إلى الإنسجام مع الوجود الإلهي والتخلص من شوائب النفس.
في اللوحة، الأبيض يبدو وكأنه عنصر يضيء المساحات الأخرى، مما قد يدل على سعي الفنان نحو النور الروحي والتجربة الصوفية التي تنبع من الصفاء الداخلي. الإضاءة هنا ليست مجرد عنصر بصري، بل هي انعكاس للمعرفة الروحية أو الوحي، في الفلسفة الصوفية، يُنظر إلى النور كرمز للإلهام الإلهي والإتصال بالمطلق في الفلسفة والجماليات يشير إلى الكمال والتجرد عن الحدود البشرية، وهو مرتبط بمفاهيم الكمال الإلهي في العديد من السياقات الفكرية.عند تحليل أعمال فنية مثل لوحات أو مقطوعات موسيقية، أو قصائد الأدب الصوفي يمكن النظر إلى “المطلق” كرمز لجمال كوني يتجاوز الحدود المادية.
الإضاءة التي تبرز في وسط اللوحة تعطي شعوراً بالخروج من الظلمة إلى النور، وكأن الفنان يصف رحلة الروح من الجهل إلى الإدراك ومن المادي إلى الروحي.
القصيدة تحمل في طياتها معاني الإنفتاح على ما هو غير مرئي، في الفكرة التي صاغتها الشاعرة دنيا صاحب عن رياح الصبا السماوية التي تأتي من مكان غيبي. هذه الرمزية تتناغم تماماً مع الأسلوب الفني الذي يعتمد على المزج بين الضوء والظل، بين الكشف والستر. وهكذا، فإن القصيدة تصور نفس الرحلة الروحية التي تعرضها اللوحة الموسيقية : رحلة من الظلام إلى النور، من العالم المادي إلى العالم الروحي.
“سيكولوجية الألوان” في التأثير النفسي والتأمل الروحي”
اللون الأخضر يحمل معاني سيكولوجية عميقة. على المستوى النفسي، يرمز إلى الإسترخاء والتوازن الداخلي. الدراسات تشير إلى أن اللون الأخضر يساهم في خفض مستويات القلق ويحفز الشعور بالسلام الداخلي. ومن خلال تدرجات الأخضر في اللوحة، يمكن أن نرى كيف يعزز الفنان هذا الشعور بالراحة والهدوء والإنسجام، كما لو أن الروح تستنشق هواءً نقياً يطهرها.
أما اللون الرمادي، فيعكس حالة من الغموض والتأمل ومواجهة التحديات النفسية. الرمادي ليس لوناً يبعث على الإيجابية مباشرة، بل هو رمز للتحولات النفسية التي يمر بها الإنسان في مسار اكتشاف ذاته وحقيقة جوهر الوجود، هذا اللون يمكن أن يعكس المشاعر المعقدة مثل الخوف والإرباك من المجهول والمخفي أو يعكس شعوراً بالثبات والإتزان، لأنه يقع بين الأبيض والأسود، مما يرمز إلى الحياد وعدم الانحياز. لذلك، يُعطي شعوراً بالإستقرار والتوازن والهدوء.
يمكن تفسير سلوك الإنسان من خلال ارتباط اللون الرمادي بالكمال في بعض الجوانب، حيث يُعبر عن الكمال الموصوف وحالة الحياد عن التعلق بالماديات ومحاربة النفس الشهوانية الخاضعة للغرائز الحيوانية، والإبتعاد عن الإنكار أو الجحود للحقائق الغيبية، وكذلك التناقضات التي قد تظهر في السلوك البشري. اللون الرمادي يمثل التوازن بين الأبيض والأسود، مما يعكس التصالح مع الذات والتوازن الروحي في مسار الإنسان الصوفي.
بعد فناء النفس والذات تتعلق الروح والنفس بالله سبحانه وتعالى، فيصل الفرد إلى حالة من الإتزان العميق والهدوء والسلام الداخلي، حيث تتلاشى الأهواء الدنيوية وتتحقق رؤية أسمى للوجود. في هذه المرحلة، يُدرك الفرد حقيقة عقيدة التوحيد الإسلامية، ويتصل بروحه على مستوى يتجاوز الإدراك الحسي الغير واعي، ويتطور بمداركه إلى حالة الوعي الكامل ، ليعيش في حالة السلام النفسي و الروحي، والتسليم الكامل لمشيئة الله.
يرمز الرمادي إلى الحياد الروحي، التجرد من الصراعات الداخلية، والتوحد مع الكل دون تمييز أو تحيز. إنه يعكس انسجاماً بين الداخل والخارج، حيث لا تطغى الأنا، بل يسود شعور بالكمال المتحرر من أي حدود مادية أو غرائز شهوانية. ولكن في نفس الوقت يعكس المسافة بين الواقع المادي والعالم الروحاني.
هذه التحولات النفسية تتناغم مع التجربة الصوفية التي تجسدها الشاعرة دنيا صاحب في قصيدتها، حيث تعكس انتقالاً عميقاً من لحظات الشك والتردد إلى اليقين والإيمان. تتناول القصيدة رحلة داخلية من الغفلة والإضطراب إلى الصحوة الروحية والتجلي، حيث يتجسد التأكيد النابع من جوهر الروح في السعي نحو بلوغ مرتبة “حق اليقين”، وهي مرحلة تتجاوز المعرفة الظاهرية إلى الإدراك المباشر للحقيقة المطلقة.
“التفاعل بين الفن البصري التجريدي والفن الشعري الصوفي”
تتداخل الأبعاد الروحية والفكرية في هذه الدراسة النقدية، حيث يصبح التفاعل العميق بين الفن البصري التجريدي، الموسيقى، والشعر، كـ وحدة متكاملة يصعب تجزئتها. تتشابك مع الفلسفة الصوفية ليصبح كل عنصر—سواء كان لونياً أو شعرياً— أو موسيقياً يجسد تعبيراً عن ذات المعنى الروحي العميق.
الشاعرة دنيا صاحب، في قصيدتها، تنقل تجربة صوفية تتسم بالتأمل الروحي العميق عبر أسلوب شعري يحمل طابعاً فلسفياً ورؤيوياً. في المقابل، يعكس الفنان نصير شمة هذه التجربة عبر توظيف الألوان الفاتحة والظلال التي تضفي على لوحته بُعداً تأملياً وفكرياً، مستحضراً جوهر الروحانية التي تسعى إلى التحرر من حدود العالم المادي والإرتقاء إلى المطلق.
اللوحة الموسيقية هي تعبير فني يدمج بين عناصر الموسيقى والفن البصري ، حيث تُجسَّد الألحان والإيقاعات بألوان وخطوط تعبر عن أحاسيس وتجارب روحية. في سياق الفن التشكيلي التجريدي، تعكس اللوحة الموسيقية حالات شعورية وأفكاراً من صعب أن تُترجم بالكلمات، بل بالرموز البصرية التي تتماهى مع الموسيقى في سعيها نحو إيصال تجربة تأملية وفلسفية تُلامس أعماق القلب و الروح.
القصيدة واللوحة يمثلان معاً رحلة الإنسان في البحث عن الخلاص والتحرر من جميع الأغلال أو القيود، والحصول على السلام الداخلي، حيث يتداخل الفكر والعاطفة والتجربة الروحية. وهذه التجربة الإنسانية الروحية قد تكون غامضة ومعقدة في البداية، لكنها تشير إلى عملية تطهير وتزكية النفس ونمو روحي. الحضور العاطفي في القصيدة واللوحة يشجعان المتلقي على الدخول في حالة تأملية، حيث تتجاوز الفنون حدودها التقليدية لتصبح وسيلة لفهم النفس البشرية ورحلة الإنسان الروحية.
“تفسير فلسفي عن عنوان” القصيدة: “ريح الصبا نفحات من الغيب”
عنوان القصيدة “ريح الصبا نفحات من الغيب” يحمل دلالة فلسفية عميقة تعكس فكرة التواصل بين العالم المادي والعالم الروحي، وهي تعبير رمزي عن انفتاح الإنسان على ما هو غيبي وغير مرئي. “ريح الصبا” تشير إلى رياح ناعمة وجميلة تحمل الهدوء والسكينة والسلام الداخلي، عادة ما ترتبط بفترة الشباب والآمال النقية، كما أن تميزها في الأدب الصوفي تحمل في طياتها تجدد الحياة والمشاعر الطيبة للإنسان العارف. لكن إضافةً عبارة “من الغيب” إلى “ريح الصبا” يجعلها تتجاوز كونها مجرد نسيم مروري أو عابر لتصبح رمزاً للنفحات السماوية أو الروحية التي تلامس الروح البشرية تهب من المشرق إلى المغرب بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس تلامس الحواس الباطنية و المادية، وهي إشارة للتطهير الكامل للإنسان المؤمن.
من الناحية الفلسفية، يُفهم “الغيب” هنا بإعتباره ما لا يدركه العقل المادي، بل هو العالم الخفي الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويشكل المحرك الأساسي لروح الإنسان. وعليه، تصبح “نفحات الصبا” في هذا السياق ليس مجرد نسيم خارجي، بل هي إشارات روحية، لحظات إلهام أو سكينة تأتي من عالم غير مرئي، لتمنح الفرد الراحة والسلام الداخلي بعيداً عن الرغبات الدنيوية الزائلة. فلسفة الغيب في هذا السياق تنتمي إلى الفكر الصوفي الذي يؤمن بأن العوالم الروحية
والميتافيزيقية ليست مجرد أفكار خيالية، بل هي حقيقة موجودة تؤثر على عالمنا المادي بشكل غير مباشر، ويمكن إدراكها بالحدس أو الإلهام أو بالمعرفة الحسية الباطنية. ومن هنا، تصبح الرياح أو “النفحات” من “الغيب” بمثابة إشارات أو تجليات تعبر عن تواصل روحي مع اللامرئي، تدفع الإنسان للإبتعاد عن المادية وترويض النفس البشرية في غرائزها وشهواتها، والتوجه نحو الكمال وتنقية النفس والروح وتطهيرها من الأدران ( الأمراض) والشوائب، والتحول إلى مراحل الكمال الإنساني والوصول إلى مرحلة السلام و السكينة الداخلية التي لا يمكن إدراكها إلا بالتجربة الروحية العميقة. يمكن تفسير ريح الصبا رمزٌ لحالة انتقالية تجدد روح الإنسان، كأنها نسيم يبعث في النفس حيوية الشباب، فتضفي عليها استمرارية دائمة للحياة، حيث لا شيخوخة ولا هرم.”
الخاتمة:
تتجلى في هذه الدراسة رؤية فكرية وبصرية عميقة، حيث تقدم تفسيراً فلسفياً للتجربة الروحية عبر الفن التجريدي. حيث استخدم الفنان نصير شمة ألواناً كالأخضر والرمادي والأبيض، والأضاءة لتجسيد حالة التأمل والانفتاح الداخلي في العلاقة بين الروح والجسد. تكمل قصيدة الشاعرة دنيا صاحب هذه اللوحة، حيث تعبر الكلمات عن تجربة تتجاوز حدود العالم المادي لتلامس أعماق الروح في بحثها عن الخلاص من حياة الفناء و الموت والإرتقاء إلى حياة الخلود.
إن التفاعل بين الفنون – من شعر، وفن بصري، وموسيقى – هو مسعى فلسفي يرمز إلى التحرر من قيود الذات الظاهرة والإنفتاح على أفق الحرية والسلام الداخلي والخارجي. هنا، يصبح الفن لغة كونية تنطق بها الروح لفهم الوجود في تناغمه بأبعاده المرئية و غير المرئية.
اللوحة بريشة: الفنان والموسيقار نصير شمة – العراق