عاصفة ترمب… كتابة التاريخ قبل حدوثه
بقلم: رفيق خوري
النشرة الدولية –
تنصيب الرئيس الأميركي هو تقليد لتنصيب ملك على طريقة ملوك بريطانيا الذين حكموا أميركا قبل الاستقلال. والرئيس دونالد ترمب يحب دور الملك، ويدعي أن العناية الإلهية جاءت به لإنقاذ أميركا كما ادعى عدد من الرؤساء السابقين. لكن أسلوب ترمب ليس ملكياً ولا رئاسياً. هو يبالغ في قدراته وفي تحقير الرؤساء الذين حكموا قبله. ففي خطاب القسم أوصل المبالغات إلى الحد الأقصى، والأميركيون يحبون المبالغات لأنها تعطيهم شعوراً بالقدرة على فعل أي شيء مهما يكن صعباً، سواء في الداخل أو في الخارج. وقمة المبالغات كانت العودة إلى البيت الأبيض مثل عاصفة تدمر ما فعله السلف كأن أميركا كانت في “العصر التنكي” وانتقلت إلى “العصر الذهبي” بحركة من يد ترمب، إلغاء أكثر من 80 من الأوامر التنفيذية التي أصدرها الرئيس جو بايدن. وإصدار عشرات الأوامر الجاهزة للتوقيع، الانسحاب من منظمة الصحة العالمية ومعاهدة باريس للمناخ، وفرض طوارئ وطنية للطاقة تلغي كل القيود على استخراج النفط والغاز على رغم الخطر البيئي، وطرد ملايين اللاجئين غير الشرعيين، وإلغاء حق اكتساب الجنسية عبر الولادة في مخالفة للدستور، والعفو عن الغوغاء الذين اقتحموا مبنى الكونغرس قبل أربعة أعوام لمنع الأعضاء من تكريس الانتصار الانتخابي لبايدن.
الرئيس آيزنهاور حذر في خطابه الوداعي من خطورة “المجمع الصناعي- العسكري”. وبايدن حذر في خطابه الوداعي من خطرين، “الأوليغارشية والمجمع الصناعي- التكنولوجي”. لكن ترمب بدأ يمارس حكم الأوليغارشية، أي الأقلية الثرية، وجمع من حوله ملوك التكنولوجيا الأثرياء. وعلى أجندته إلغاء “الدولة العميقة” و”الدولة الإدارية” حسب مشروع مؤسسة “هريتاج 2025”. أما الشعار الذي رفعه في حملته الأولى ثم الثانية، فإنه شعار رونالد ريغان عام 1980، “جعل أميركا عظيمة ثانية”. و”السلام مع القوة” وهو شعار لرؤساء سبقوا ريغان وترمب.
ذلك أن أميركا كانت عظيمة مع وودرو ويلسون في الحرب العالمية الأولى، ومع فرانكلين روزفلت خلال الحرب العالمية الثانية، ومع ريغان وجورج بوش الأب في الحرب الباردة وبعدها. ولا يلغي ذلك ما أصابها بعد فيتنام وأفغانستان والعراق والشعور بأنها صارت “قوة عظمى شكاكة بنفسها” حسب فريد زكريا، و”قوة عظمى مختلة الوظيفة” حسب روبرت غنيتس. فلا “انحدار أميركا انتهى الآن” كما أعلن ترمب، ولا المعركة الكبرى حالياً سوى “صراع حول أي عالم يُشكَّل وبماذا؟ بالديمقراطية الليبرالية أم بالأوتوقراطيين؟” على حد تعبير البروفيسور هال براندس. وترمب معجب بالأوتوقراطيين، وليس ممن تبلورت مواقفهم وسياساتهم في إطار النظام الديمقراطي الليبرالي الذي بنته أميركا بعد الحرب العالمية الثانية.
والسؤال الكبير الآن هو كيف سيكون العالم مع فرض ترمب الرسوم الجمركية العالية على حلفاء أميركا وخصومها، وتحول أكبر اقتصاد في العالم إلى سياسات الحماية؟ أين تتوقف الحرب التجارية الجديدة وإلى جانبها حرب باردة جديدة، بصرف النظر عن كلام ترمب على التوجه نحو إنهاء الحروب والطموح لأن يكون “صانع سلام”؟ وماذا عن الصراع الجيوسياسي والاستراتيجي على قمة العالم من أجل نظام عالمي متعدد الأقطاب تعمل له الصين وروسيا وتقاتل أميركا للحيلولة دونه، أو أقله لإبطاء حركته؟ وما معنى كتابة التاريخ قبل حدوثه؟
الحروب التجارية ليست أقل خطورة من الحروب العسكرية، فالتسويات فيها صعبة ودقيقة وتؤذي كما تفيد الجبهات الداخلية التي تصبح عاملاً مؤثراً في القرار، وبعضها قاد إلى حروب فعلية. والحرب الباردة الجديدة مرشحة لأن تطول، وأميركا ربحت الحرب الباردة القديمة بسياسات متعددة ضمن “استراتيجية الاحتواء” التي دعا إليها جورج كينان، واستراتيجية الإفقار و”المساعدة على الانتحار” حسب رئيس لاتفيا. والصين وروسيا مصممتان على ربح الحرب الباردة الجديدة أو أقله على “تصحيح” ما حصل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والاعتراف بالتطور الذي صنعته الصين. والكل ينتظر ما الذي يمكن أن يفعله ترمب لترتيب تسوية في حرب أوكرانيا، هل يجبر زيلينسكي على التسليم لبوتين بما استولى عليه من أرض، وتصبح أوروبا في وضع صعب حيال النفوذ الروسي؟ أم يفعل ما يرضي روسيا وأوروبا مع وضع حد لطموح كييف نحو الانضمام إلى “ناتو”؟
أي جواب في أوكرانيا يدق الأجراس في الشرق الأوسط، فماذا يفعل ترمب الرئيس “التحولي” حيال التحولات الهائلة في المنطقة منذ حرب غزة ولبنان وسقوط نظام الأسد في سوريا وانحسار النفوذ الإيراني؟ هل يندفع مع إسرائيل لتوجيه ضربة إلى المشروع النووي الإيراني، أم يفضل عقد صفقة رابحة له مع طهران؟ وكيف يستطيع توسيع “اتفاقات أبراهام” إن لم يقدم شيئاً للفلسطينيين في إطار “حل الدولتين”؟
المؤرخ نيال فيرغسون يطلب من ترمب “التعلم من ريغان في التنافس مع الصين”، ومارغريت ماكميلان التي علمت التاريخ العالمي في أوكسفورد تسأل “هل يستطيع نظام مضطرب الحفاظ على نفسه مع قائد معطل؟”. وتقول إن “توقع المستقبل مسألة صعبة بسبب الاحتمالات المتعددة، خصوصاً عندما تكون في منتصف الأحداث”.