كارلوس بينيانا: روح الفلامنكو في عصر الحداثة والتجديد

حاورته : دنيا صاحب – العراق
يُعَتبر كارلوس بينيانا من أهم أعمدة الفلامنكو الحديثة، ليس فقط كعازفٍ بارع، بل كمبدعٍ يحمل روح الأندلس في أنامله، فيعيد إحياء هذا التراث العريق بأسلوب متجدد يخاطب قلوب المستمعين من مختلف الثقافات. يعكس عزفه حواراً موسيقياً عالمياً، حيث تمتزج روعة الفلامنكو الإسباني بصدى الموشحات الأندلسية، فتتحول أنغامه إلى سردٍ موسيقي يتجاوز الحدود واللغات.
في أعماله، مثل مقطوعة غرناطة التي قدمها مع الموسيقار العراقي نصير شمة، يستحضر بينيانا عبق الأندلس، محوِّلًا الموسيقى إلى جسر يصل بين الشرق والغرب، ويذيب الحواجز بين الماضي والحاضر. لكنه لا يكتفي بإحياء التراث، بل يعيد تشكيله من خلال مشروعه أنغام جديدة، الذي يمزج بين الأصالة والحداثة بأسلوب مبتكر، ليؤكد أن الموسيقى لغة عالمية قادرة على تحقيق التفاهم الإنساني العابر للحدود.
بينيانا، الذي يُعتبر رمزاً للحوار الثقافي، لم يقف عند المزج بين الإرث الإسباني والشرقي، بل انفتح على تجارب موسيقية متعددة من خلال تعاونه مع كبار فناني العالم، ليجعل من موسيقاه منصةً للالتقاء الإبداعي. هكذا يترك بصمته المميزة، ليس فقط كحارسٍ للتراث، بل كجسرٍ نابض بالحياة يربط حضارات الماضي بإيقاعات الحاضر، مؤكداً أن الفن هو أعظم سفير للسلام.
§ كيف بدأت رحلتك مع الغيتار، ولماذا اخترت موسيقى الفلامنكو تحديداً؟
• بدأت العزف على الغيتار في سن العاشرة. في منزلي، كانت هناك دائماً تجمعات لموسيقيي الفلامنكو من جميع أنحاء إسبانيا، الذين كانوا يأتون للتعلم من والدي وجدي، وكان لذلك تأثير كبير عليّ، مما ساعدني لاحقاً على العمل ودراسة غيتار الفلامنكو. كان أول أستاذ لي هو والدي، فقد علّمني جميع أسرار غيتار الفلامنكو. كانت مرحلة معقدة جداً بالنسبة لي، لأنني كنت مضطراً إلى عزف الفلامنكو وأيضاً تعلم الغيتار الكلاسيكي في المعهد الموسيقي في مدينتي، كارتاخينا. لكنها كانت تجربة تعليمية رائعة بالنسبة لي، لأنها كانت شاملة جداً. فقد امتلكت قوة وكاريزما الفلامنكو، إلى جانب البراعة الفنية للغيتار الكلاسيكي. وهذا المزيج استثنائي.
§ من هم المعلمون الذين درست معهم الموسيقى وكان لهم تأثير على أسلوبك؟
• كان معلمي الأول هو والدي. لقد درست مع عدة معلمين كعازف غيتار، والذين ساهموا أيضاً في تطويري كعازف غيتار وملحن. كان المعلم الكبير بالنسبة لي هو عازف الغيتار باكو دي لوسيا. إنه أعظم انعكاس نمتلكه نحن عازفي الفلامنكو، لأنه أفضل عازف غيتار في جميع الأوقات. نعتقد دائماً أنه المرآة التي نريد جميعاً أن نعكس أنفسنا من خلالها. كما قضيت وقتاً في الدراسة مع عازف الغيتار مانولو سانلوكار.
§ لقد عملت على مشاريع موسيقية تمزج بين الفلامنكو والموسيقى الشرقية. كيف نشأت هذه الفكرة؟
• نشأت هذه الفكرة عندما التقيت بأستاذ العود نصير شمة. معه اكتشفت عالماً جديداً من الإمكانيات الموسيقية. هناك العديد من أوجه التشابه بين الفلامنكو والموسيقى العربية، وكان ذلك عنصراً أساسياً في تواصلنا منذ اللحظة الأولى. كذلك، كان لقائي الأول مع الأستاذ نصير شمة مذهلاً. جلسنا وجهاً لوجه، وبدأ السحر بالظهور. ومع مرور الوقت، تمكنا من ابتكار أسلوب شخصي جديد يجمع بين الفلامنكو والموسيقى العربية من خلال لغتنا الموسيقية. لدينا الكثير من القواسم المشتركة موسيقياً، ونهج في التعامل مع الموسيقى يملؤنا بالحب، والفرح، والشغف، والقوة، والشجن.
§ كيف تصف تجربتك مع الموسيقار نصير شمة في مقطوعة “غرناطة”؟
• هذه المقطوعة هي ثمرة ارتجال بيننا. ولدت بعد فترة طويلة من العزف المشترك، حيث أنشأنا أجواءً موسيقية تعكس رؤيتنا لاندماج الثقافات والآلات الموسيقية. وكل ذلك كان بخيطٍ مشترك يربطنا بمدينة غرناطة، المدينة التي تعني لنا الكثير بسبب إرثها الثقافي الذي يجمعنا. إنها واحدة من أجمل المقطوعات التي قمنا بتأليفها، وهي تعبير عن هويتنا المشتركة، وعن الصداقة والاحترام والإعجاب المتبادل بيننا.
§ ما هي أبرز المقطوعات التي تفخر بتقديمها، ولماذا؟
• حسناً، أعتقد بشكل عام أنه يجب دائماً السعي لضمان أن تكون جميع المقطوعات التي نؤلفها ونقدمها ذات جودة تعبيرية عالية، ولكن الأهم من ذلك أن تحمل شحنة عاطفية تمكنها من نقل المشاعر ليتمكن الجمهور من التفاعل معها. أعتقد أن هذا هو الأمر الأكثر أهمية بالنسبة للفنان، أن يكون قادراً على إيصال الأحاسيس وإشراك الجمهور في ما يشعر به من خلال الموسيقى وآلته الموسيقية.
§ كيف يمكن للموسيقى أن تكون وسيلة للحوار الثقافي بين الشعوب؟
• حسناً، قبل كل شيء، الموسيقى هي اللغة العالمية للجميع. إنها ما يميز هوية الشعوب. في حالة الفلامنكو والموسيقى العربية، يمكننا اعتبارهما موسيقى نابعة من الجذور، من الناس الذين يعيشون على هذه الأرض، ومن مشاعرهم وتعبيراتهم. أعتقد أنه رغم أنني ونصير شمة وُلدنا في ثقافتين مختلفتين تماماً، إلا أننا في الوقت نفسه نشترك في العديد من القواسم الموسيقية والرؤية العميقة للحياة، مما يسمح لنا بتوحيد آلاتنا، وأيدينا، وعقولنا، وقلوبنا، لنصنع الموسيقى التي نحملها بداخلنا والتي وُلدنا بها في أحضان عائلاتنا وشعوبنا.
§ كيف ترى تأثير مزج الموسيقى التقليدية بالأساليب الحديثة في أعمالك؟ وما الرسالة التي تحاول إيصالها من خلال هذه التجارب السمعية التي تمزج بين ثقافات موسيقية مختلفة؟
• حسناً، إن أسلوبي في مزج الفلامنكو مع أنواع موسيقية أخرى مثل الجاز، والموسيقى العربية، والبلوز، وحتى الموسيقى الكلاسيكية، هو أمر طبيعي بالنسبة لي، لأنني أمارسه منذ سنوات عديدة. أنا موسيقي شغوف بالتجربة والاستكشاف، وأحب تقديم بدائل جديدة في عالم الفلامنكو. أولًا، لأنني أستمتع بهذا النهج، وثانياً، لأنني أعتقد أنه من المهم التكيف مع السياق الموسيقي الجديد الذي يشهده الفلامنكو على المستوى الدولي، أي القدرة على مزج الفلامنكو مع أنماط موسيقية أخرى. لكن الأهم هو القيام بذلك مع احترام التقاليد والأشكال التي تميز موسيقى الفلامنكو، مع إدخال عناصر جديدة تساهم في خلق أسلوب أكثر حداثة وتطوراً.
§ هل لديك أي مشاريع موسيقية قادمة أو تعاونات مع الموسيقار نصير شمة أو فنانين آخرين من ثقافات عالمية مختلفة؟
• لدي تعاون جديد مع الفنان نصير شمة في شهر يونيو من هذا العام. من دواعي سروري دائماً العزف معه مرة أخرى واكتشاف آفاق موسيقية جديدة تتيح لنا إثراء بعضنا البعض. هذا الصيف، سأذهب إلى الولايات المتحدة للعمل على مشروع مع 50 عازف غيتار أمريكي، حيث سنقدم على المسرح برنامجاً يمزج بين الفلامنكو وأنماط موسيقية أخرى.
§ هل تعتقد أن الفلامنكو في تطور مستمر أم أنه يحافظ على تقاليده الأصلية؟
• الفلامنكو اليوم في حالة مزدهرة واستثنائية، وذلك تحديداً ـ لأنه في تطور مستمر. هناك العديد من الفنانين الذين يمزجون الفلامنكو بأنماط موسيقية أخرى، مما يثري لغته الموسيقية مع الحفاظ على جذوره التقليدية، وهذا هو الأمر الأهم. يجب على أي فنان فلامنكو أن يكون ملماً جيداً بالتقاليد حتى يتمكن من التطور بثقة.
§ كيف ترى دور التكنولوجيا في تطور الموسيقى والآلات الموسيقية الحالية، مثل الغيتار؟
• إدخال التقنيات الحديثة على غيتار الفلامنكو شكّل خطوة كبيرة ومهمة، مما ساعد فناني الفلامنكو على أن يكونوا أكثر تنافسية في عالم الموسيقى. أصبح من السهل الآن إنشاء استوديو تسجيل خاص بك في المنزل، مما يتيح لك تسجيل أعمالك بجودة عالية، وفي الوقت نفسه يسهل عملية التأليف. امتلاك استوديو تسجيل خاص في المنزل يمنحك القدرة على تحليل صوتك بشكل أفضل وتطوير أسلوب شخصي أكثر تميزاً.
§ كيف تعكس مقطوعة “غرناطة” اندماج الثقافتين الشرقية والغربية، وما الرسالة التي تحملها عن إرثك الموسيقي؟
• على الرغم من أن الشرق والغرب يبدوان بعيدين زمنياً، إلا أننا من خلال مقطوعة “غرناطة” أصبحنا قريبين جداً. هناك عناصر موسيقية وعاطفية مميزة لكل من الشرق والغرب، لكنني أراها من منظور شخصي أكثر، من خلال تفاعل موسيقيين ينتميان إلى ثقافتين مختلفتين. أعتقد أنها تمثل انعكاساً مثالياً لما يمكن أن يكون عليه اندماج الثقافتين الشرقية والغربية.
§ ما هي مصادر الإلهام التي تثير فيك النشوة عند العزف والتأليف الموسيقي؟
• أحب أن أستمد إلهامي من العديد من الأشياء. أستمد إلهامي من الهدوء، ومن المناظر الطبيعية، ومن السلام، ولكن فوق كل شيء، أستمد إلهامي من الناس. في الوقت الحالي، اكتشفت شخصاً في حياتي، وهو مصدر إلهام كبير لي…
§ ما النصيحة التي تقدمها للموسيقيين الشبان الذين يطمحون لإتقان الفلامنكو؟
• أهم شيء هو أن يتمكنوا من خلق لغتهم التأليفية الخاصة بهم وأسلوبهم الشخصي. في تدريب عازف الغيتار الفلامنكو، أهم شيء في البداية هو معرفة التقليد والتقنية، وبهذا الشكل سيتمكنون من التعبير بشكل أفضل عن الأفكار واللغة التي يطورونها تدريجياً مع مرور الوقت. من المهم أيضاً أن يكتسبوا دور التقنيات الحديثة في تطورهم كعازفين.