الرسول الأب الروحي: الإنسان الكامل في سيرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم
بقلم: دنيا صاحب - العراق

النبوة: عهد جديد للإنسانية

بزوغ النور في زمن الظلام

في قلب صحراء الجزيرة العربية، وبين شعاب مكة، بزغ نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عام الفيل، ليكون بداية عهد جديد في تاريخ الإنسانية. لم يكن ميلاده عاديًا، بل كان إيذانًا بقدوم رسالة ستغير مسار العالم. عاش يتيمًا، لكنه لم يكن وحيدًا، فقد كفله جده عبد المطلب ثم عمه أبو طالب، فتربى في بيئة قاسية صقلت شخصيته، وأكسبته الحكمة والصبر.

منذ صغره، لُقب بالصادق الأمين، لأنه كان عنوانًا للوفاء والصدق، فكان أهل مكة يأتمنونه على أموالهم وأسرارهم، رغم أنه لم يكن من أصحاب الثروة أو الجاه. لكن الله كان يعدّه لأمر عظيم، فكبر قلبه على المحبة، وتشربت روحه قيم العدل، وأصبح عقله منفتحًا على التفكر في الكون، بعيدًا عن الأصنام التي سجد لها قومه.

حين بلغ الأربعين، وبينما كان يختلي بنفسه في غار حراء، أتى إليه جبريل عليه السلام بالوحي، فكانت اللحظة التي بدأت فيها رحلة النبوة. “اقرأ”، أول كلمة أنزلت عليه، لم تكن مجرد أمر، بل كانت ثورة فكرية في مجتمع لا يعرف القراءة ولا يهتم بالعلم. كانت رسالة الإسلام دعوة للإنسان ليخرج من ظلام الجهل إلى نور المعرفة، ومن عبودية الأوثان إلى عبادة الواحد الأحد.

واجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عناد قريش، لكن قلبه لم يعرف الكراهية، بل واجه الأذى بالصبر، والتكذيب باليقين، والإساءة بالعفو. كان يعلم أن التغيير الحقيقي يبدأ من القلوب، فبدأ رحلته في بناء أمة لا تقوم على النسب أو القبلية، بل على الإيمان والحق.

القائد الرحيم: بناء مجتمع جديد

لم يكن النبي قائدًا عسكريًا يسعى للفتوحات، بل كان قائدًا أخلاقيًا يسعى لتحرير العقول والقلوب. حين هاجر إلى المدينة، أسس مجتمعًا قائمًا على العدالة والمساواة، حيث لا فرق بين سيد وعبد، ولا بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. آخى بين المهاجرين والأنصار، وأرسى أول دستور ينظم العلاقات بين المسلمين واليهود والمشركين، ليؤكد أن الدولة لا تُبنى بالسيف، بل بالعدل والتعايش.

حتى في ميادين الحرب، كان الرحمة تتجسد في شخصه. لم يرفع سيفًا إلا لرد الظلم، ولم يأمر بقتال إلا دفاعًا عن الحق. كان يوصي أصحابه بعدم قتل الأطفال أو النساء أو قطع الأشجار، لأن هدفه لم يكن التدمير، بل الإصلاح.

الرسالة الخالدة

بعد ثلاثة وعشرين عامًا من الجهاد والتضحية، أتم النبي رسالته، ووقف في حجة الوداع ليخاطب الأمة بأعظم دستور إنساني: “أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا… كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى”.

بهذه الكلمات، وضع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسس العدالة والمساواة، ورسّخ مبادئ الرحمة والسلام، تاركًا للعالم إرثًا خالدًا من القيم النبيلة. لم يكن مجرد نبي، بل كان نموذجًا للإنسان الكامل، ومصدر إلهام للأجيال عبر العصور.

واليوم، ونحن نواجه تحديات الحضارة الحديثة، نجد في سيرته النبوية الحلول لكل أزمات البشرية، لأنه كان وسيبقى الأب الروحي للإنسانية، والقدوة التي تهتدي بها القلوب في ظلمات الحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى