من اليمن إلى لبنان: هل يعيد الحوثيون إنتاج تجربة “حزب الله”؟

النشرة الدولية –
اندبندنت عربية –
منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، بدأت جماعة الحوثيين في اليمن بشن هجمات على سفن تجارية في البحر الأحمر وباب المندب، معتبرة أن ذلك إسناداً لغزة وأنها تستهدف السفن المرتبطة بإسرائيل. والحقيقة أن كثيراً من السفن التي قصفها الحوثيون لا علاقة لها بإسرائيل، بل كانت في أحيان كثيرة سفن شحن مدنية، كسفينة نقل السيارات “غالاكسي ليدر” التي احتجز طاقمها المكون من 25 بحاراً كرهائن في الـ19 من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2023، مما أثّر في حركة التجارة العالمية، خصوصاً عبر قناة السويس، ودفع كثيراً من الشركات إلى تغيير مساراتها، فتسبب بارتفاع الكلف وتأثر الاقتصاد العالمي بما فيه الأميركي.
وكثفت الولايات المتحدة أخيراً ضرباتها العسكرية ضد منشآت ومواقع استراتيجية للجماعة المدعومة من إيران لوضع حد للتهديدات المستمرة للملاحة في ممر مائي حيوي يمر عبره نحو 15 في المئة من التجارة العالمية. وكان البيت الأبيض أكد في بيان رسمي أن “أكثر من عام قد مر منذ أن أبحرت آخر سفينة تجارية أميركية بأمان عبر قناة السويس أو البحر الأحمر أو خليج عدن”، مضيفاً أن “أية قوة إرهابية لن تتمكن من إيقاف السفن التجارية والبحرية الأميركية من الإبحار بحرية في ممرات العالم المائية وأن الأمن الاقتصادي والقومي الأميركي تعرض لهجمات من قبل الحوثيين لفترة طويلة جداً وأن إجراءات وقيادة الرئيس دونالد ترمب تعمل اليوم على إنهاء هذا الوضع”.
وأتت الهجمات الأميركية ضد الحوثيين في سياق عوامل مترابطة عدة غير الرد على استهداف الملاحة الدولية، ومن بينها حماية مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، حيث تعتبر واشنطن أن حرية الملاحة في البحر الأحمر والطرق البحرية الدولية من المصالح الحيوية، لذلك ترى أن أي تهديد لها، سواء من الحوثيين أو غيرهم، يتطلب رداً عسكرياً، كما أنها تتحرك لحماية السفن التابعة لحلفائها، بخاصة البريطانية لأن الهجمات الحوثية لم تقتصر على سفن إسرائيلية فقط.
الضغط على إيران وحلفائها
وتأتي الهجمات أيضاً ضمن سياسة أميركية أوسع لردع ما يعرف بـ”محور الممانعة” الذي تقوده إيران ويمتد من الحوثيين في اليمن إلى “حزب الله” في لبنان و”الحشد الشعبي” في العراق والميليشيات في سوريا. وهذه الضربات توجه رسالة إلى إيران بأن واشنطن مستعدة للرد على أي تهديد لأمن المنطقة والمصالح الغربية، كما أنها من باب حماية الردع الأميركي بعد مقتل جنود أميركيين في يناير (كانون الثاني) عام 2024، إذ قتل جنود وأصيب 35 آخرون بهجوم بطائرة مسيّرة على قاعدة في الأردن “البرج 22” قرب الحدود السورية، واتهم حينها الرئيس الأميركي السابق جو بايدن فصائل مدعومة من إيران بالضلوع في الهجوم متوعداً في الوقت نفسه بالرد. وبعد ذلك كثفت أميركا ضرباتها في العراق وسوريا واليمن كردّ مباشر لإعادة فرض معادلة الردع. وتحاول الإدارة الأميركية حتى الآن الموازنة بين إظهار الجدية والتركيز على عدم التصعيد، أي الرد بقوة من دون الانجرار إلى حرب شاملة، لذلك تستهدف مواقع محددة في اليمن (منصات إطلاق صواريخ ورادارات ومخازن أسلحة) لتحجيم قدرات الحوثيين العسكرية.
هل يكرر الحوثيون مصير “حزب الله”؟
في زحمة التصعيد الإقليمي وتصاعد الضربات ضد جماعة الحوثي في اليمن تبرز تساؤلات جوهرية، هل تسير الجماعة في المسار نفسه الذي سلكه “حزب الله” في لبنان؟ وهل تنتهي إلى عزلة داخلية وتآكل شعبي؟ بخاصة أنه بعد مقتل كثير من قادة الحوثيين بالضربات الأميركية، يقارن مراقبون بين ما يحصل مع جماعة الحوثي وما حصل مع “حزب الله” طوال الفترة الماضية، إذ اغتالت إسرائيل قياداته وأبرزهم أمين عامه السابق حسن نصرالله، وهاجمت مواقعه، فيما لا تزال عمليات الاغتيال والاستهدافات مستمرة حتى اللحظة.
بين دولة السلاح وسلاح الدولة: التحول من “الممانعة” إلى دولة داخل الدولة
وتشير الوقائع الميدانية والقراءات السياسية إلى تداخلات معقدة، فهناك مؤشرات تدعم فرضية التكرار وأخرى تؤكد أن السياقين مختلفان إلى حد كبير، وهناك أوجه شبه استراتيجية بين الجماعتين وأخرى خلافية بنيوية وجيوسياسية. فما هي العوامل التي قد تؤدي إلى مصير مشابه وتكرار المصير نفسه؟ وما يمنع ذلك؟
من “الممانعة” إلى الهيمنة، القصة تتكرر إذ إن “حزب الله” بدأ كحركة ضد الإسرائيليين في الثمانينيات، مستنداً إلى خطاب تعبوي ودعم إيراني مباشر، غير أن تحوله لاحقاً إلى قوة عسكرية – سياسية مهيمنة داخل لبنان أضعف صورته الثورية. وكما تطور “حزب الله” من حركة عسكرية إلى قوة مهيمنة داخل لبنان، يتكرر السيناريو نفسه مع الحوثيين في اليمن، حيث سيطر الحوثيون على العاصمة صنعاء ومفاصل الدولة وانتقلوا من خطاب المظلومية الزيدية إلى مشروع حكم شامل يتجاوز حدود الطائفة. وتحت المظلة الإيرانية بات الطرفان عنصرين فاعلين ضمن ما يعرف بـ”محور الممانعة”، مما جلب عليهما خصومات إقليمية ودولية واسعة وفتح الباب أمام عزلة داخلية في ظل الانقسامات المجتمعية والخسائر الاقتصادية، والارتهان لذلك المحور الذي عمق العداء مع قوى إقليمية ودولية وزاد من العزلة الداخلية والخارجية، خصوصاً حين تبدأ الأولويات الإقليمية تتجاوز المصلحة الوطنية.
الرصيد الشعبي: من الشرعية الثورية إلى الإنهاك الشعبي
كما واجه “حزب الله” تراجعاً في التأييد الشعبي الشيعي اللبناني وانفصالاً تدريجياً عن المزاج الشعبي العام بسبب الحروب المتكررة والدخول في ملفات إقليمية معقدة (سوريا والعراق واليمن) وتدهور الاقتصاد، يواجه الحوثيون مساراً مشابهاً في ظل التجنيد الإجباري والقيود الأيديولوجية والانهيار الاقتصادي وتضرر مصالح المدنيين وتجنيد الأطفال وفرض أيديولوجيا دينية متشددة، وبدأ يظهر تململ في أوساط القبائل والمجتمع المدني، بخاصة ضمن المدن الكبرى.
ومع تصاعد الضربات الغربية على مواقعهم في البحر الأحمر وتحولهم إلى طرف فاعل في صراع دولي مع واشنطن ولندن، يصبح الخطر أكبر من مجرد خسارة محلية، أي خطر العزلة الدولية والانهيار التدريجي للمشروعية. وإذا توسعت الضربات الأميركية والبريطانية ضد الحوثيين، فمن الممكن أن يتحول الصراع من ورقة ضغط على البحر الأحمر إلى مواجهة مباشرة، كما حصل مع “حزب الله” الذي تحول على مر السنين من مواجهة إسرائيل إلى طرف في حرب استنزاف أتت على الاقتصاد والبنى التحتية ومصالح المدنيين وحولت لبنان إلى دولة ضعيفة مترهلة وأصابت العلاقات اللبنانية الدولية والعربية بأذى وضرر شديدين.
عدم وجود دولة مركزية منافسة فعلياً
وعلى رغم أوجه الشبه، هناك عوامل تجعل مصير الحوثيين مختلفاً، وعلى رأسها غياب دولة مركزية حقيقية في اليمن. ففي لبنان استند “حزب الله” إلى طائفة محددة (الشيعة) ولاحقاً اصطدم بالدولة ومؤسساتها. أما في اليمن وعلى رغم جذور الحوثيين الزيدية، فإنهم نسجوا تحالفات قبلية وعائلية متنوعة، مما يعطيهم قدرة أكبر على المناورة ضمن بنية المجتمع اليمني. فالطبيعة الاجتماعية والقبلية تمنحهم هامشاً أوسع للمناورة. وفي وقت يرتبط “حزب الله” ببيئة طائفية محددة، نسج الحوثيون تحالفات قبلية وسياسية تتجاوز الهوية المذهبية، أضف إلى أن الجماعة تسيطر على المؤسسات وتواجه خصوماً مشتتين بين حكومة معترف بها دولياً ومجلس انتقالي جنوبي وقوى قبلية متباينة، كما أن ليس لدى الحوثيين منافس قوي داخل مناطقهم، مما يمنحهم مساحة للتحكم من دون مساءلة تذكر ويؤجل الاستنزاف الداخلي.
القدرة على التمويل الذاتي
إلى جانب ذلك فإن الحوثيين يسيطرون على موارد اقتصادية محلية مثل الجمارك والضرائب والاقتصاد غير الرسمي، مما يمنحهم اكتفاء جزئياً، في حين أن “حزب الله” يعتمد بصورة كبيرة على الدعم الإيراني. ومن هنا يمتلك الحوثيون قدرة أكبر على التمويل الذاتي عبر اقتصاد الحرب، بعكس “حزب الله” الذي تأثر كثيراً بالعقوبات الغربية وتقليص التمويل الإيراني واستهداف مؤسساته المالية خلال الحرب الأخيرة مع إسرائيل كمؤسسة “القرض الحسن”، فضلاً عن الرقابة على المعابر الشرعية اللبنانية لوقف الإمدادت وخنقها.
طبيعة الجغرافيا والصراع
ولا يملك اليمن التعقيدات الطائفية والسياسية اللبنانية نفسها ولا التداخل الدولي نفسه، مما قد يجعل الحوثيين أكثر قدرة على البقاء، خصوصاً إذا جرى توقيع تفاهمات دولية تحفظ مصالح القوى الكبرى في البحر الأحمر. ولكن مع هذا من المحتمل أن يواجه الحوثيون بعضاً من المصير الذي لحق بـ”حزب الله” من ناحية العزلة السياسية والتآكل الشعبي التدريجي، لكنهم يمتلكون أدوات تكتيكية واجتماعية مختلفة تؤجل أو تخفف من هذا المصير، والفيصل سيكون في كيفية إدارتهم الصراع مع القوى الدولية ومدى قدرتهم على احتواء الغضب الشعبي وتقديم مشروع حكم أكثر واقعية وأقل أيديولوجية.
لذا يمكن القول إن تكرار المصير ليس حتمياً، وعلى رغم أن جماعة الحوثي تواجه أخطاراً حقيقية من التوسع المفرط في السلاح والتورط في الحروب الإقليمية، فإن قدرتها على البقاء رهن بحجم المرونة السياسية التي ستبديها في المرحلة المقبلة، فإذا أعادت تعريف مشروعها من “الحكم العقائدي” إلى “الحكم السياسي” وقلصت من ارتهانها الإقليمي لمصلحة توافق وطني داخلي، فمن الممكن أن تنجح في تجنب العزلة التي لحقت بـ”حزب الله”، أما إذا أصرت على نهج القوة وتجاهلت المتغيرات، فإن الطريق إلى المصير ذاته سيكون أقصر مما تتصور.
“ضربة تقصم ظهر جماعة الحوثي”
يقرأ الإعلامي والمحلل السياسي علي حمادة في هذا الملف ويعتبر أن “الهجوم على الحوثيين هذه المرة هو هجوم جدي ولا يقتصر على الحوثيين وهجماتهم في البحر الأحمر والمعابر البحرية الدولية ولن يكون مجرد رد، فالموضوع أخطر لأن إدارة ترمب توجه ضربات ساحقة للحوثيين في كل مكان ولا تقتصر الهجمات على صنعاء والحديدة، بل هناك ضربات ممنهجة للقواعد الرئيسة في منطقة صعدة مسقط رأس الحوثيين”، وقال “نحن ذاهبون إلى ضربة تقصم ظهر جماعة الحوثي وربما تسهل في ما بعد لعملية الانتقال إلى الشرعية اليمينة لاستعادة الأراضي واستعادة العاصمة والحديدة، وربما لا يحصل ذلك، ولكن في كل الأحوال الأميركيون جديون بالنسبة إلى هذا الموضوع لأن سمعة الإدارة في الميزان”.
جبهة اليمن مختلفة بسبب “الموقع الجيوبوليتيكي”
من جهته رأى الإعلامي والأستاذ الجامعي محمد شمص أن “جبهة اليمن تختلف كثيراً عن باقي الجبهات لأهمية موقع اليمن الجيوبوليتيكي وقدرة السيطرة على حركة الملاحة البحرية والمضائق المائية هناك”، إضافة إلى أن الجغرافيا التي تساعد الحوثيين على مواجهة أي تقدم أو توغل بري أميركي ينفذ لتوجيه ضربة قاسية للجماعة.
وتابع شمص أن الأميركيين يدركون أن اليمن معضلة وكما تسميه وسائل الإعلام الأميركية والإسرائيلية “معضلة اليمن”، بخاصة لناحية التأثير على المضائق المائية والملاحة البحرية حيث تعبر السفن الأميركية والإسرائيلية، كما تستفيد قيادات الحوثي من الطبيعة الجغرافية للبلاد حيث تتحصن في أعماق الجبال وتحت الأرض، مستفيدة من تجربة ’حزب الله‘ وما حصل من استهداف المقاتلات الأميركية والإسرائيلية لحسن نصرالله وهاشم صفي الدين (أمينان عامان راحلان لـ’حزب الله‘) وقيادة الحزب”، وهناك أيضاً البعد الجغرافي لإسرائيل عن اليمن، 2000 كيلومتر تقريباً، مما يعوق من قدرة تل أبيب على تنفيذ ضربات عسكرية في اليمن لأنها بحاجة إلى التزود بالوقود ومشكلات أخرى، أما الأميركيون ولأن لديهم قواعد عسكرية في المنطقة وحاملات طائرات فكانت العمليات العسكرية بالنسبة إليهم أسهل”، لكن عندما لم تعُد حاملة الطائرات “هاري ترومان” قادرة وحدها على المواجهة، طلب ترمب أن يرسل “آيزنهاور” لتكون إلى جانبها وغيرها من السفن والبوراج والفرقاطات المرافقة لها.
قيادات الصف الأول “محصنة”
ويضيف شمص “هذا يعني أن هذه البارجة وكل ما حولها من فرقاطات وسفن لم تكُن قادرة على تحقيق الأهداف. واليوم مرّ أكثر من أسبوعين على الهجوم الأميركي على اليمن ولم يحقق أي هدف، ونعم من الممكن أن يلجأ إلى استهداف بعض الشخصيات العسكرية والسياسية من مستويات متدنية، وإظهار هذا الأمر للرأي العام على أنه يستهدف قيادات عسكرية وسياسية مهمة في اليمن، لكن القيادة العسكرية والسياسية والأمنية من الصف الأول محصنة ولا يستطيع الأميركي الوصول إليها.