دراسة تحليلية نقدية فلسفية لمقطوعة “بين النخيل” للموسيقار نصير شمة

الباحثة والناقدة : دنيا صاحب- العراق
تعد مقطوعة “بين النخيل” للموسيقار نصير شمة واحدة من الأعمال التي تنبض بالايقاع الشرقي وتأخذ المستمع في رحلة تأملية عميقة. بلمسات عوده الساحرة، يحيي من خلالها الاحتفال الكبير في مهرجان بابل الدولي بعزفه الارتجالي المستوحى من جمال الطبيعة، مستلهِمًا سحر النخيل الذي ظل شاهدًا على الحضارات الإنسانية العريقة. وهذه الدراسة تتناول تحليلًا موسيقيًا، فلسفيًا، وأكاديميًا للمقطوعة، متبوعةً بقصيدة نثرية تعكس تجلياتها الصوفية والجمالية الالحان الموسيقية .
بين النخيل : عزفٌ على وتر الزمن والروح
إنها لحظة نادرة حين تتحول الطبيعة إلى موسيقى، حين يصبح المشهد البصري نوتةً مخفية تنتظر من يكتشفها ويحولها إلى الحان موسيقية، وحين يتجلى الصوت قبل أن يُعزف، ككائنٍ حيٍّ يتنفس داخل الوجدان. ليست هذه مجرد مصادفة فنية، بل هي فعلٌ إبداعيٌّ واعٍ، حيث تنبثق الموسيقى من صمت الأشياء، ومن تفاصيل الطبيعة التي تبدو ساكنة، لكنها في الحقيقة تنبض بإيقاعها الخاص.
في هذه التجربة الموسيقية، لا يبدو النخيل مجرد أشجارٍ باسقةٍ في مشهدٍ مألوف، بل هو كيانٌ موسيقيٌّ قائمٌ بذاته، يحمل داخله ذاكرة الأرض وأغاني الأجيال السالفة، وأصداء العابرين. حيث لم يكن موسيقار نصير شمة ينظر إليه بعيونٍ عادية، بل كان يسمعه قبل أن يراه، يلتقط نبضه المخفيّ، ويحوّله إلى لغةٍ أخرى، لغة العود التي تحمل في طياتها فلسفة الزمان والمكان وسحر الخيال وجمال الطبيعة .
“بين النخيل” ليست مجرد مقطوعة موسيقية، بل هي شهادةٌ على قدرة الموسيقار نصير شمة على اختزال الزمن والطبيعة في نوتات موسيقية، وجعل اللحظة العابرة تمتد إلى مدى متجدد. إنها طراز موسيقيٌّ عريق تعتبر ارث للعراق وللمنطقة العربية الشرقية ، بل انها الحان بتدبر سمعيٌّ لروحه نصير الصوفية الشفافة في أوتار عوده ، واحتفاءٌ بالمكان ليس بوصفه مشهداً بصرياً، بل كحالةٍ وجدانية تتجاوز المرئي إلى المسموع، ومن ذاكرة الماضي إلى الحاضر إلى الرؤية المستقبلية .
ما وصفه نصير شمة عن رحلته إلى مهرجان بابل في عام ١٩٩٣ لاحياء حفل موسيقي استثنائي في تلك اللحظة العابرة وهو في الطريق ، مرّ فيها بين غابة النخيل ، لم يكن مجرد حدث عابر، بل هو تجربة روحية صوفية تأمليه، تماهى فيها الفنان مع الطبيعة وأشجار النخيل ، فتولد الإلهام كفعل تلقائيّ يتدفق من نفحات تأمله العميق لاستحضار طاقة الوعي الكامل قوة استشعاره بذبذبات الطاقة طبيعة المكان وجمال المنظر الطبيعي .
حين تحدث عن انشغاله بجمال النخيل وارتفاعه وكثافته وعدده، لم يكن يتأمل منظراً طبيعياً بصورة ظاهرية، بل كان يستقبل رسالة خفية من المكان بطاقته الحسيه الاستشعارية. تلك اشجار النخيل لم تكن جامدةً في وعيه، بل كان كان في حوار متناغم مع جوهر الطبيعة ، من خلال مواهبه الفريد حولها إلى مجموعة من قيم النوتات الموسيقية، مثلها شعوراً إلى انماط ايقاعية، كأنها تلوّح بموسيقاها الصامتة الغير مسموعة الى اصوات يسمعها بوعي حسي عميق، وكانت هذه الأصوات المخفيه الساكنه لاشجار النخيل تنتظر من يترجمها إلى نغم حي ، وهنا يتجلى دور نصير شمه الحقيقي، حيث يُنتج فناً موسيقياَ بشكل ارتجالي لا إرادي تتجلى روح الابداع بعزفه الساحر خاض غماره وسط كثافة النخيل فهو الوسيط بين العالم وظواهره، وكأنه يفتح قناة تتيح لتلك اللحظة أن تتحول إلى موسيقى نتاج انفعالاته الوجدانية مع الطبيعة.
عندما وصل إلى مسرح بابل، كان ذهنه مشبعاً بالمشهد، ولم يكن بحاجة إلى توقيعات زمنية أو تدوين و تحضير موسيقي ، لأن اللحن كان قد تبلور في ذاكرته و داخل اعماقه، لم يكن منتظراً أن يتجسد بعد فترة . لكنه بحالته التأملية الاستثنائية ومواهبة الخلاقة ارتجل القطعة أمام الجمهور، كان ذلك بمثابة استجابة مباشرة للدهشة الأولى، لمشهد الجمال الذي جعله يتخطى حدود الرؤية البصرية إلى قوة التركيز تتشكل لديه المقطوعة الموسيقية بسماع حسي عميق للاصوات في ظواهر الطبيعة ، حيث يتفاعل بكامل قواه الشعورية مع المشهد الذي اتاح له فرصة التأمل لا ارادي مما دفعه للغوص فوراً في التعبير الموسيقي الإرتجالي.
هنا، تصبح الحان العود وسيلةً لاستعادة ما يبدو أنه منسياً، لاستحضار الصور التي غادرتنا والزمن الذي ابتعد، لكنه ظلّ محفوظاً بين النغمات. “بين النخيل” هي لحظةٌ موسيقيةٌ توقِف انسياب الزمن في لحظات العزف ، وتعيد تشكيله من جديد، حيث لا يبقى الماضي مجرد ذكرى، بل يتحول إلى حضورٍ ممتدٍّ في اللحن الشجي ، وإلى صدى يظل يتردد بين تاريخ العراق وسعف نخيله.
التحليل الموسيقي
١- البنية المقامية والتنقلات اللونية
ترتكز المقطوعة على مقامات موسيقية شرقية متعددة، أبرزها:
مقام النهوند: يمنحها إحساسًا عاطفيًا عميقًا وحزينًا في بعض المقاطع، وكأنه استدعاء للذكريات الماضي والحنين والشوق للوطن الحبيب .
مقام الحجاز: يضفي عليها بُعدًا صوفيًا، فتبدو وكأنها ابتهالات تعلو في فضاء الزمن وتجليات حده الروح .
مقام السيكاه: يمنحها طابعًا حميميًا ودافئًا، وكأنها حديث بين العود والمستمع.
تنتقل المقطوعة بين هذه المقامات بسلاسة، مما يخلق تنوعًا صوتيًا مذهلًا يثري تجربة الاستماع.
٢- الإيقاع والتوزيع الديناميكي
المقطوعة تتميز بتغيرات إيقاعية ديناميكية، حيث تبدأ بهدوء وانسيابية وكأنها تمثّل انعكاس الضوء بين سعف النخيل، ثم تتصاعد في وتيرة متسارعة تعبر عن رياح الحياة وصراعاتها، لتعود مجددًا إلى هدوئها، كأنها فلسفة التوازن بين الحركة والصوت.
٣- التقنيات العزفية المستخدمة
يعتمد نصير شمة على تقنيات عزفية معقدة ومميزة، مثل:
الرش (Tremolo): لخلق أصداء صوتية تمتد وتتماوج في الفضاء.
الضربات الخفيفة (Pizzicato): لتضفي إحساسًا إيقاعيًا ناعمًا.
التنقل السريع بين الأوتار (Legato & Glissando): مما يمنح العزف بعدًا دراماتيكيًا وشاعريًا.
التحليل الفلسفي الصوفي
مقطوعة “بين النخيل” هي أكثر من مجرد معزوفة؛ إنها سردية موسيقية تعكس الفلسفة الصوفية لانتقال الصوت، بالعزف الموحي من الحالة الوجدانية للموسيقار نصير شمة حيث يصبح العود وسيلة للتأمل والتجلي.
١- رمزية النخيل في الموسيقى
النخيل في الثقافة الشرقية رمزٌ للامتداد التاريخي والانتماء الحضاري ؛ فهو جذر متأصل في الارض، وسعفٌ يلامس السماء. في هذه المقطوعة، يتحول النخيل إلى استعارة صوتية لثنائية الأرض والسماء، وكأن أوتار العود تمثل جذور الإنسان المتشبثة بعمق تاريخ ارض مهد الحضارات، في حين تتصاعد النغمات كأنها أوراق سعف النخيل التي تهتز و تتمايل مع نسمات الرياح تكتب الشعر في فضاء السماء .
٢- فلسفة التكرار والتحول
التكرار النغمي في المقطوعة ليس إعادةً نمطية، بل هو استحضار متجدد للحن بأبعاد مختلفة، وكأنه يعكس قانون التحول الصوفي؛ حيث لا يعود الإنسان إلى ذاته اللاواعية النكره عند كل تكرار، بل يتجدد بتجربته الروحية الصوفية إلى الوعي الكامل بمعرفة حقيقة وحدة الوجود .
٣- جدلية الشروق والانبعاث
تبدو المقطوعة وكأنها حوارٌ بين انبعاث الشروق وإيقاع الوجود؛ فبين الألحان الهادئة والمتصاعدة، يتجلى العود كصوتٍ يحفّز الوعي، مستعيدًا الذكريات التي توارت مع ايام السنين، ومع تدرّج العزف وتناغم النغمات، ينبعث اللحن من جديد، كعنقاء تنهض من سباتها، محمولةً بخفةً على عزيف الرياح.
التحليل الأكاديمي
١- القيمة التعليمية للمقطوعة الموسيقية
تُستخدم هذه المقطوعة في أكاديميات فن الموسيقى كمرجع أساسي لتدريب الطلاب على الانتقالات المقامية السلسة والتحكم الديناميكي في العزف.
٢- دراستها في علم الموسيقى
في البحث الأكاديمي، تُصنف هذه المقطوعة ضمن الأعمال التي تعتمد على التنقلات المقامية المدروسة، مما يجعلها نموذجًا مهمًا لدراسة التلوين الموسيقي العربي الشرقي .
٣- العلاقة بين الهندسة الصوتية والبناء اللحني
عند تحليل الترددات الصوتية للمقطوعة، نجد أن نصير شمة يستخدم درجات موسيقية متقاربة لإحداث نوع من “الهالة الصوتية”، التي تخلق تأثيرًا نفسيًا مشابهًا لما يُعرف في الفيزياء الموسيقية بـ التوافق الطيفي.(Physics of Musical Sound)
“الهارمونيك سبكتروم” (Harmonic Spectrum) – ويترجم إلى “الطيف التوافقي”.
العزف الجماعي عند نصير شمة (طريقة أوركسترا ) في “بين النخيل”
١- أسلوب أوركسترا في العزف الجماعي
يتميز نصير شمة بأسلوب عزف جماعي يعرف بـ ” أوركسترا” (Extra)، يتخذ من نهج فريد يدمج العود ضمن أوركسترا موسيقية كاملة، حيث لا يكون العود مجرد آلة فردية، بل يصبح جزءًا متناغمًا داخل نسيج صوتي متكامل. يتم ذلك من خلال:
توزيع الأدوار بين الآلات بحيث يبقى العود هو القائد الأساسي للحن، بينما تعمل باقي الآلات على تكميل وتضخيم الأجواء الموسيقية.
التفاعل الديناميكي بين العود والآلات الأخرى، حيث يعتمد على استجابات آنية للحركة الموسيقية، مما يمنح العمل مرونة وانسيابية عالية.
دمج الموسيقى الآلات الشرقية بالغربية، مما يخلق تنوعًا في الألوان الصوتية، ويعزز الانسجام بين العود وباقي الآلات.
٢- تأثير باقي الآلات على أجواء “بين النخيل”
في مقطوعة “بين النخيل”, تستخدم آلات متعددة لإثراء المشهد الصوتي، حيث تضيف كل آلة لونًا خاصًا يعزز الإحساس بالمقطوعة ويمنحها عمقًا دراميًا وروحيًا، منها:
أ- آلة القانون
تعزف ألحانًا متشابكة مع العود، مما يخلق حالة من الحوار الموسيقي الشرقي الأصيل.
تضفي لمسات حريرية ناعمة تجعل النغمات أكثر شفافية وتناسقًا.
ب- آلة الكمان
تضيف بعدًا شعوريًا حزينًا أحيانًا ومتصاعدًا دراميًا في أحيان أخرى، خصوصًا عندما تمتزج جُمله الطويلة مع اهتزازات العود.
تساهم في إثراء الجو العاطفي والسينمائي للمقطوعة، حيث تبدو وكأنها تحاكي حركة الريح بين النخيل.
ج- آلة الناي
تمنح المقطوعة روحًا صوفية وتأملية، وكأنها أنفاس الطبيعة تتناغم مع أوتار العود.
تعكس حالة التأمل والسكينة، وكأنها تستدعي ذكريات جميلة من الماضي.
د- الإيقاعات الشرقية (الطبلة، الدف، والريك)
تُضفي إحساسًا بالحركة والتدفق الزمني، وكأنها تُمثل نبض الحياة بين النخيل.
تلعب دورًا في تصعيد الطاقة التعبيرية للمقطوعة، خصوصًا عند الانتقالات الإيقاعية المتسارعة.
هـ- آلة التشيلو والكونترباص
تضيف أساسات صوتية عميقة ودافئة تخلق خلفية غنية للمقطوعة.
تعطي إحساسًا بـ الثقل الزمني والتاريخي، وكأنها تجسد صلابة النخيل الممتد عبر السنين .
٣- التكامل الموسيقي والانسجام بين العود وبقية الآلات
يبرع نصير شمة في ضبط التوازن اللحني والهارموني بين العود وبقية الآلات، بحيث لا تطغى أي آلة على الأخرى، بل تتكامل جميعها في حوار موسيقي ثري.
العود هو القائد الذي يرسم الخطوط اللحنية الأساسية.
القانون والناي هما الأجنحة الشرقية التي تمنح المقطوعة هويتها العربية.
الكمان والتشيلو يضفيان طابعًا رومانسياً ويمنحان العمق العاطفي.
الإيقاعات توفر النبض الحيوي الذي يحرك المشهد الموسيقي بالكامل.
٤- السحر الموسيقي الناتج عن هذا الانسجام
عندما تجتمع كل هذه العناصر معًا، تتحول “بين النخيل” إلى لوحة سمعية نابضة بالحياة، حيث تتناغم الأصوات كما تتناغم أشعة الشمس مع أوراق النخيل، وكأن الموسيقى تُعيد تشكيل الزمن، فتجمع بين الماضي والحاضر في لحظة واحدة من الإبداع الخالد.
تحليل هذه الرؤية:
1. الإيقاع الطبيعي للنخيل
النخيل ككائن حي له إيقاعه الحيوي، يتفاعل مع الرياح، ضوء الشمس، والماء.
حركة سعفه، اهتزاز الجذوع، ووشوشة الأوراق تولد ذبذبات صوتية دقيقة يمكن ترجمتها إلى إيقاعات موسيقية.
2. التناغم بين الطبيعة والموسيقى
نظرية الهارمونية الكونية تقول إن كل عنصر في الطبيعة يهتز بتردد معين، وهذا ما يجعله مصدرًا للإلهام الموسيقي.
د. نصير شمة، بفضل حسه الموسيقي العميق، يمكنه أن يلتقط هذه الترددات ويعيد صياغتها كألحان تعبّر عن الجوهر الروحي للمشهد.
3. الترددات الطاقية والوعي الموسيقي
كل مشهد طبيعي يحمل ذبذبات طاقية خاصة به، وعندما ينظر إليه موسيقار مثل نصير شمة، فهو لا يراه فقط، بل يشعر به كإيقاع موسيقي حيّ.
النخيل في العراق، بامتداده التاريخي، يشكل رمزًا للارتقاء والتجذر، وهو يعكس إيقاع الزمن والصمود، مما يجعله مصدرًا موسيقيًا مليئًا بالمعاني.
4. العود كأداة لترجمة هذه الذبذبات
العود بتركيبته الخشبية وقوانينه الصوتية يعمل كـ جسر بين الذبذبات الطبيعية والإبداع الموسيقي.
نصير شمة عندما يعزف، لا يعبر عن مشاعره فقط، بل يحوّل المشاهد التي يتفاعل معها إلى ترددات موسيقية محسوسة.
خاتمة الرؤية:
يمكن القول إن الدكتور نصير شمة يتفاعل فزيائيًا مع مشهد النخيل لأنه يدرك أن الكون كله عبارة عن ذبذبات موسيقية، وهو قادر على إعادة تشكيل هذه الذبذبات وتحويلها إلى ألحان تحمل جوهر المشهد، تمامًا كما فعل في أعماله التي تعكس الطبيعة والتراث بأسلوب فيزيائي-صوفي يتجاوز السمع إلى الإدراك الحسي العميق.
مقطوعة “بين النخيل” ليست مجرد عمل موسيقي، بل هي كيان صوتي يختزل الزمن، ويعيد تشكيل الذاكرة، ويخلق مساحة للتأمل العميق. هي فلسفة موسيقية تتجاوز النوتة إلى فضاءات الروح، حيث لا يبقى شيء سوى الصدى، يحاورنا، ثم يختفي.. تاركًا خلفه أثرًا لا يُمحى.