إعلام على نارٍ عالية، حين يقدم الخبر بلا نكهة!
بقلم: رنا حداد

النشرة الدولية –

الدستور الأردنية –

ليس كل طبق مُزيَّن شهيّا ويُؤكل، كما أن ليس كل خطاب جذّاب يُصدّق. في زمنٍ لم يعد فيه المذاق مهمًا، بات شكل الطبق هو كل ما يهم.

لا تستهجن هذا الربط بين الإعلام وعالم المطابخ، أساتذتنا قالوا لنا عندما دخلنا بلاط صاحبة الجلالة، مهنة الصحافة، أن المطبخ التحريري هو الأساس. ما أعاد لذاكرتي هذا المصطلح اليوم، هو، أسف بأن الوجبات الإعلامية تُقدَّم اليوم، كما تُقدَّم أطباق إنستغرام: تزيينات مبهرة، ألوان متناسقة، تصوير احترافي… لكن حين تقترب لتتذوق أو تأكل، لا تجد نكهة، لا تجد مكونات مفهومة، بل خلطات مرتجلة هدفها الوحيد هو الإبهار السريع.

تدهورت أدوات الخطاب العام حتى تحوّلت إلى «طهاة هواة»، لا يقيسون المعلومة بمقدار فائدتها، ولا يُراعون التوازن بين المحتوى والدقة، بل يخلطون كل ما يُثير الانتباه، ثم يضعونه في طبق مزخرف زائف، ويقدّمونه للجمهور على أنه «الوجبة الكاملة».

المفارقة أن هذا الطبق الإعلامي لم يعد حتى يُعدّ من مكونات معروفة أو قابلة للتحليل، بل صار مزيجًا من العناوين السطحية، والصراخ المجاني، والرأي المعلّب، والنوايا المعدّة مسبقًا، والإثارة المصطنعة.

أصبح المتلقي ضحية هذا «الطبيخ العشوائي»، يتلقى كل يوم وجبة جديدة، مشوّقة الشكل، فارغة المضمون، وربما ضارّة أحيانًا، يعاني بعدها تلبكًا حادًا.

لم يعد هناك وقت للطهو البطيء، للبحث المتأني، للسؤال الحقيقي عن: من؟ ولماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ وأين؟ كل ما يهم هو أن «يُشاهد» الطبق، وأن يحظى بقدر كافٍ من الإعجاب والمشاركة، ولو كان خاليًا من القيمة.

في خضمّ هذا الضجيج البصري والمعلوماتي، تبرز الحاجة إلى العودة لفنّ الطبخ الحقيقي: الإعلام الذي يُحضَّر بصدق، يُختار فيه كل مكوّن بعناية، ويُطهى على نارٍ هادئة من التحقّق والتأمل والسؤال العميق.الأهم الرغبة في إشباع حاجة المتلقي.

الصحافة ليست عرضًا للطهاة، بل مسؤولية تجاه جمهور يستحق أن يُقدَّم له طبقٌ يُغذّي فكره، لا أن يُثقل معدته بمحتوى فارغ. سرعان ما يجوع بعده، والأهم: لا قيمة غذائية «ولا يحزنون».

تُرى، كم نشتاق اليوم إلى ذلك «الطبيخ القديم»؟.

ذاك الذي كانت تعدّه الجدّات في مطابخ ضيّقة، دون وصفات منشورة أو عدّاد مشاهدات، لكن بنكهة تبقى في الذاكرة لسنوات. كنّا نعرف أن ما يُطهى هناك صادق، وأن كل مكوّن له غرض، وكل رشة ملح وراءها خبرة، وكل وقت على النار له معنى.! .

نعم، يجب أن يكون الإعلام: مهنة تُمارَس بروح «الجدّة، أو الأم المسؤولة»، لا بروح «الطاهي التلفزيوني»؛ فيها حكمة، وصبر، وإيمان بأن القيمة الحقيقية لا تُقاس بالشكل، بل بالتأثير.

فلنعد إلى المطبخ… إلى الصحافة الصادقة، حيث تُطهى الحقيقة على نار الوعي، وتُقدَّم في طبقٍ يُغذّي الفكر، لا يُتخم العين فقط. دعونا نتذوّق من جديد. فالحالة الصحية متهالكة، ولا ينقصها أصباغ.. و أضواء.

زر الذهاب إلى الأعلى