تفكيك سورية ولبنان
بقلم: غازي العريضي

النشرة الدولية –
لم يخطئ كمال جنبلاط عندما حذّر (مع بدايات الحرب الأهلية عام 1975) من مشروع إسرائيل الهادف إلى تقسيم لبنان، نقطةَ انطلاق للمشروع الأكبر؛ تفتيت المنطقة إلى دويلاتٍ مذهبيةٍ وطائفية. تلمّس هذا الأمر قبل أشهُرٍ من اندلاع الحرب، إذ كانت مؤشّراتٌ تأتي من مصادر دولية وعربية تنبّه إلى حدوث تطوّرات أمنية خطيرة في لبنان. ومشروع التقسيم يعرفه كمال جنبلاط منذ عقود في سياق قراءته أطماع إسرائيل، ومن خلال ما عُرض عليه (وعلى غيره سابقاً) من اقتراحات لإقامة دولة درزية، وكان رفضه قاطعاً. في الداخل، حاول مع الخصوم تجنّب الحرب والسقوط في هذا المشروع وفشل. كان كلامه مع القيادة السورية واضحاً في الاتجاه ذاته، فكانت أطماعٌ سوريةٌ في المقابل، وأوهامٌ بإمكانية المحافظة على الوحدة الوطنية من خلال الإمساك بلبنان كلّه. سقط لبنان، وسقطت سورية في أتون الحروب المفتوحة، وإسرائيل هي هي، ومشروعها هو هو؛ تفتيت المنطقة.
نشرت صحيفة جيروزاليم بوست قبل أيام تقريراً عنوانه “تفكيك لبنان وسورية”، جاء فيه: “الوضع الحالي في السيادة المتصدّعة في لبنان وسورية يعطي لمحةً عمّا يمكن اعتباره حلّاً رسمياً، وهو تفكيك لبنان وسورية إلى دول أصغر ذات سيادة”، “إن منطقة الشرق الأوسط تعاني باستمرار من الصراعات والتشابكات الجيوسياسية، وصلت إلى ذروة غير مسبوقة من الفوضى في أعقاب الهجمات الشنيعة التي وقعت في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023”. وتساءلت: “هل ستحقّق الحكومتان الجديدتان في كلا البلدين التحوّل الذي تتوقّعه المنطقة والعالم؟ يمكن القول، إن هذه الهياكل الحكومية الجديدة غير مستدامة، لأنها لا تعالج المشكلة الأساسية المتمثّلة في الجمود الطائفي المتجذّر في البلدين”. كيف يمكن حلّ المشكلة؟… يجيب التقرير: “يتطلّب مستقبل مستدام للشرق الأوسط إعادة تطوير هيكلية جريئة تقدم على تفكيك الدول القومية وظهور كيانات سياسية أصغر تعكس الهُويَّات المذهبية والطائفية المتنوّعة في المنطقة. هذا المفهوم المقترح للبنان يجد القدر نفسه من الأهمية إن لم يكن أكبر في حالة سورية”. “إن نظام الدولة الحديثة في الشرق الأوسط هو نتاج عمليات تاريخية تأثّرت بشكل كبير بالتدخّلات والمؤامرات الإمبريالية. في عام 1916 تجاهلت سايكس بيكو، التي تُعدّ رمزاً للتقسيم الاستعماري، التركيبة العرقية والطائفية للمنطقة، ممّا أجبر الجماعات المتباينة على التعايش المضطرب. والتوسيع الكبير لحدود لبنان الذي قام به الموارنة في مؤتمر باريس في أكتوبر 1919، وإعلان استقلال لبنان مع بقاء النفوذ الفرنسي في نوفمبر/ تشرين الثاني 1941، ثمّ الاستقلال التام عام 1943، لم تسهم إلا في ترسيخ البنية والنظام الجيوسياسي المصطنع. كان لبنان مزيجاً من المسيحيين الموارنة والمسلمين السُّنة والشيعة والدروز وطوائف أخرى تفكّكت تحالفاتها الهشّة خلال الحرب الأهلية وحتى اليوم. سورية كما لبنان، مزيج من السُّنة والشيعة والعلويين والأكراد والمسيحيين والدروز، ثبت استحالة تعايشهم في إطار وطني واحد”. “دعوة الشرع إلى سورية موحّدة تستند إلى ركائز واهية. الحالة الراهنة من السيادة المكسورة والتقسيم الفعلي في كلّ شيء ما عدا الاسم، تقدّم لمحة عمّا يمكن إضفاء الطابع الرسمي عليه؛ تقسيم لبنان بين كيانات ودويلات، وتقسيم سورية بين اتحاد من الدول والمدن على أساس الحقائق العرقية والطائفية، فضلاً عن الهُويَّات المجتمعية”. “هذا الأمر سيسمح بإنشاء كيانات أكثر تجانساً واستقراراً. ستكون له تداعيات على الصراع الدائم بين اسرائيل والدول المجاورة. وجود اتحاد من المناطق المستقلّة في لبنان، إلى جانب منطقة عازلة منزوعة السلاح في جنوبه، من شأنه أن يحيّد الهيمنة العسكرية لحزب الله، ويقلّص النفوذ الإيراني”.
لن يتوقف المشروع الإسرائيلي عند حدود دولة ما. وجرف فلسطين يستمرّ لتهجير أهلها
تقول الحقيقة إن هذا المشروع قديم لدى إسرائيل، ولم يظهر مع حزب الله وإيران الخميني. وقد قدّمنا دماءً في مواجهة إسقاطه، ونجحنا في بدايات الحرب (1975)، ثمّ لاحقاً في حرب الجبل، لكنّ إسرائيل لم تغيّر أهدافها وسياساتها. وهل ثمّة أوضح من الكلام الذي أورده التقرير، والممارسات الإسرائيلية في الأرض في لبنان من جنوبه إلى شماله، وفي سورية لإقامة مناطق عازلة تحت سيطرتها، من دون أن ننسى أن ثمّة دولاً عربية تقسّمت فعلياً حتى الآن: السودان وليبيا والعراق، بطريقة أو بأخرى، والباقي في الطريق، خصوصاً عندما يُشار إلى سقوط صيغة سايكس بيكو؟ وهذا ما أثرناه أكثر من مرّة في قراءتنا المشهد العربي عندما أكّدنا أن “ثلاث دول غير عربية تقرّر مصير المنطقة العربية: تركيا وإيران وإسرائيل، والعرب غير موجودين”. وعندما يشار إلى فشل تجربة “لبنان الكبير”، التي خرج بعض المغالين بمزايداتهم بأهميتها في لبنان، يعبّرون أخيراً وعلناً أن “البطريرك الحويك ارتكب خطيئة في هذا الأمر”، وهؤلاء معروفون بقناعاتهم التقسيمية. وعندما يتحدّث التقرير عن تقسيم الكيان بين كيانات تعكس الهُويَّات المذهبية والطائفية، ألا يشعر العرب والمسلمون أنهم معنيون بهذا الأمر في كلّ دولة فيها تنوّع إسلامي مسيحي وكردي، أو تنوّع مذهبي سنّي شيعي مثلاً، ممّا يعني أن الدور سيأتي إليهم؟
إن قصر نظر بعضهم، وهروب بعضهم الآخر من مواجهة الحقائق والوقائع بالارتماء في أحضان إسرائيل أو أميركا، وتمزيق “الحضن العربي” أكثر، وهو الذي يتغنّى به كثيرون متجاوزين الوقائع والحقائق، يشكّل خطراً في حدّ ذاته على المنطقة كلّها من دون استثناء. ومن هنا، تبدأ المعالجة إذا كان ثمّة قناعة بذلك.
لن يتوقف المشروع الإسرائيلي عند حدود دولة ما. وجرف فلسطين يستمرّ لتهجير أهلها.