علاج الصدمات بالعسكرة والخوف
بقلم: رفيق خوري

النشرة الدولية –

نهاية الحرب الباردة كانت قصيرة. واللافت أنها قادت إلى عكس ما كان في التوقعات والحسابات الاستراتيجية، عسكرة العالم بقوة. لماذا؟ لأن التوظيف الأميركي لنهاية الحرب الباردة بإعلان انتصار الغرب وتوسيع “الناتو” والعمل لتغيير الشرق الأوسط، قبل التركيز على الشرق الأقصى كانت له، بطبائع الأمور، ردود فعل صاخبة في الصين وروسيا. والمقدمات كاشفة. مضاعفات الغزو الأميركي للعراق والطريقة التي أديرت بها الحرب والأسلحة المستخدمة أخافت الصين، فأسرعت إلى تحديث ترسانتها وبناء قوة بحرية وجوية إلى جانب القوة البرية التقليدية. ومضاعفات الغزو الروسي لأوكرانيا أخافت أوروبا فدعمت كييف بما تيسر من الأسلحة، مع الاتكال على الدعم الأميركي القوي خلال رئاسة جو بايدن. الصين كانت في حاجة إلى صدمة لتغيير قواعد اللعبة في تايوان. وأوروبا كانت على الطريق إلى صدمة لإنهاء إجازة من التاريخ.

لكن صدمة أوروبا جاءت مزدوجة، صدمة من روسيا التي أيقظ فيها الرئيس فلاديمير بوتين النزعة الانتقامية والإمبريالية، بعدما تصورت أوروبا أن موسكو “يمكن أن تكون جزءاً من الغرب، وبدأت تخفيف الموازنات العسكرية على أساس أن جيراننا أصدقاء أو شركاء”، حسب المستشار الألماني السابق أولاف شولتز. وصدمة من أميركا على يد الرئيس دونالد ترمب الذي لوح بالخروج من “الناتو” وطلب من الأوروبيين دفع ثمن الحماية الأميركية، أو أقله التزام الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي رفع الإنفاق العسكري إلى اثنين في المئة من الناتج المحلي ثم إلى خمسة في المئة.

الصدمة الروسية جعلت أوروبا ترى “الخطر الروسي” وتستعيد أيام التحسب لاندفاع الدبابات إلى قلب القارة العجوز أيام السوفيات، وتدرك أن إدمان النفط والغاز من روسيا مسألة خطرة. والصدمة الأميركية بدأت في ولاية ترمب الأولى، لكن سياسته عملياً خلال الولاية الثانية كانت أعنف، بحيث كانت البداية فرض رسوم جمركية عالية على حلفائه وشركائه الأوروبيين. وما كان بد من الاستيقاظ من النوم على الوسادة الأمنية الأميركية تحت المظلة النووية، ومن إدراك الضرورات التي تبيح المحظورات، وبينها صعوبة الاستمرار في الإنفاق على “دولة الرفاه” من دون تثقيل الموازنات بالإنفاق العسكري، ما دامت أميركا تمول 70 في المئة من موازنة “الناتو”، وأوروبا تهرول حالياً لزيادة الإنفاق العسكري على طريقة أوغسطس قيصر القائل “اجعل التعجل بطيئاً”.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يرفض أن تكون أوروبا من “أكلة الأعشاب” ضعيفة ومحاطة بمجموعة من المفترسين “آكلي اللحوم”. ويرى ضرورة أن تستعيد أوروبا السيطرة على تاريخها، لأنه لم يعد بإمكانها تفويض حماية أمنها إلى الولايات المتحدة”. لا بل يتساءل “هل على الأوروبيين أن يقرأوا التاريخ الذي يكتبه الآخرون والحروب التي يشنها بوتين والانتخابات الأميركية وخيارات الصين التجارية والتكنولوجية أم أن عليهم أن يكتبوا تاريخهم الخاص؟”. وإذا كان وزير الخارجية الفرنسي سابقاً دومينيك دو فيليان يرى أن المنطق الأميركي اليوم هو “الافتراس”، فإن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يسجل “أن أوروبا كانت على مدى 500 عام وراء كل مآسي العالم”.

ولا أحد يجهل أن ما تستطيعه فرنسا له حدود. أما ألمانيا صاحبة الاقتصاد القوي، فإنها كما يرى مستشارها الجديد ميرتس تكمل “بناء أقوى جيش بري في أوروبا لمواجهة روسيا”. وهي بدأت بناء ملاجئ تحت الأرض استعداداً لهجوم روسي بعد ثلاثة أعوام”. وليس من المفاجآت أن يفيد استطلاع للرأي في روسيا أن أكثرية الروس ترى “ألمانيا أكثر عداء لروسيا من أميركا”.
لماذا تخلفت أوروبا في سباق التكنولوجيا العالمي؟
وأما بريطانيا، وهي مثل فرنسا قوة نووية، فإن رئيس وزرائها العمالي كير ستارمر يتجه نحو “تطور ثوري” في البناء العسكري، لجهة تحديث القوات البحرية والجوية وصنع مزيد من الغواصات والقاذفات النووية مع شراء بعضها من أميركا. ومن الصعب أن تذهب أوروبا إلى ما سماه ماكرون “الاستقلال الاستراتيجي” عبر إنشاء قوة أوروبية تحمي القارة بعد اللايقين في ضمانات أميركا والتزاماتها، لكن المؤكد هو زيادة الإنفاق العسكري الأوروبي ضمن “الناتو”، فضلاً عن أن 14 دولة أوروبية انضمت إلى مشروع “درع السماء الأوروبية”.

ذلك أن أوروبا التي خصصت أخيراً 880 مليار يورو للإنفاق العسكري تواجه صعوبة “الاستقلال العسكري” عن أميركا، وصعوبة “الاستقلال الاقتصادي” عن الصين وسلاسل التوريد، ولا سيما بالنسبة إلى المعادن الثمينة. فلا أفريقيا بقيت البقرة الحلوب لأوروبا، بعد نهاية الاستعمار واستثمار الثروات الطبيعية خلال مرحلة الاستقلال، ثم وعي الدول الأفريقية على مصالحها الوطنية وتعدد الخيارات الصينية والروسية والأميركية أمامها. ولا ترمب يستطيع إجبارها على الخيار بين أميركا والصين في المجال التكنولوجي قبل الاقتصادي. وهو عملياً فشل في إقناع دول الخليج بوقف التعامل التكنولوجي مع الصين، لأن هذه الدول قررت توسيع الخيارات الأميركية والصينية والروسية واليابانية والهندية في مواجهة “الانتقائية” الأميركية. والبحث لا يزال مستمراً عن السؤال الذي طرحه أولاف شولتز، وهو “كيف نستطيع كأوروبيين وكاتحاد أوروبي أن نبقى مستقلين في عالم متعدد الأقطاب؟ والمفارقة أن أوروبا محسوبة دائماً خارج عالم القطبين ثم القطب الواحد ثم التعدد القطبي.

يقول سيمون سرفاتي من مركز الدراسات الاستراتيجية في وارسو “أوروبا قوة في العالم لكنها ليست قوة عالمية”. ولا يصح أن يكون هذا قدر أوروبا.

زر الذهاب إلى الأعلى