مصر وأصبع الديناميت
بقلم: أحمد الصراف
النشرة الدولية –
كانت الدول العربية في نهاية القرن الـ19 ومطلع القرن العشرين تنقسم، حسب فهمي، لأربع مناطق سياسية جغرافية؛ الخليج والجزيرة، وكانت سعيدة في عالمها الصحراوي الروحاني الخاص! ثم دول شمال أفريقيا، في عالمها الاستعماري، كونها المزرعة الخلفية لأوروبا، وثالث تلك المناطق دول الشام، سوريا ولبنان وفلسطين، الأكثر حركة، والمنطقة الرابعة والأخيرة مصر، التي كانت يتبعها السودان!
كانت بلاد الشام حينها، وربما لا تزال، منطقة طاردة، فمنها هاجر الكثير إما بسبب المجاعة، وإما بحثاً عن فرص عيش أفضل، وإما غالباً هرباً من البطش والظلم العثماني الذي كان الجميع، وبالذات المسيحيون والشيعة يرزحون تحته، فالأتراك كانوا يستخدمونهم في أعمال السخرة، وفي التجنيد في الصفوف الأمامية في الجيوش العثمانية، وكان غالبيتهم لا يعودون أحياء لأهاليهم. وهذا دفع عدداً من الأقليات، غير المسلمة وغير السنية، للتحصن في الجبال الوعرة بعيداً عن يد الوالي العثماني، الطويلة.
كان مواطنو بلاد الشام في تلك الفترة، وبالذات لبنان وسوريا، يفضلون الهجرة لوجهات ثلاث؛ أميركا الشمالية، وأميركا الجنوبية، ومصر، التي كان يفضلها أولئك الذين لم يكونوا يرغبون في الذهاب بعيداً عن أوطانهم في تلك الفترة من منتصف القرن الـ19 وبداية القرن العشرين، حيث كانت مصر مزدهرة وقِبلةً للمبدعين في الكثير من المجالات، فإليها هاجر الأخوان «بشارة وسليم تقلا» عام 1860 تقريباً، وأصدرا تالياً من الإسكندرية (قبل 157 عاماً) صحيفة «الأهرام»، التي أصبحت مع «ناصر وهيكل» اليومية الأشهر في تاريخ العرب.
كما هاجر لمصر في الفترة نفسها، أو بعدها بقليل، بشارة واكيم، ونجيب الريحاني، وفريد الأطرش وأسمهان، والنابلسي، وبديعة مصابني، ونور الهدى ومي زيادة، وجرجي زيدان، وأعداد كبيرة من المغامرين والباحثين عن فرص عمل، فقد كانت مصر تشتهر بتقدمها الزراعي والصناعي والفني والأدبي، ومصدر تنوير ومنها كانت تخرج إصدارات صحافية وثقافية وأدبية متنوعة. كما كانت أستوديوهات أفلامها تنتج باقة من الأفلام السينمائية والوثائقية.
كما قدمت مصر للعالم، العربي بالذات، عدداً من العمالقة في الفلسفة والأدب والقانون والسياسة كطه حسين وعلي عبدالرازق وعبدالقادر المازني وعباس العقاد، ومكرم عبيد ومصطفى النحاس والسنهوري وغيرهم. كما كانت تعيش في مدينتيها القاهرة والإسكندرية جاليات يونانية وإيطالية كبيرة مستقرة منذ عقود طويلة.
ثم جاء الطوفان مع قدوم العسكر للحكم عام 1952 فانفجر أصبع الديناميت، مع قطع ضباطها صلة مصر بماضيها، وقرار «جمال عبدالناصر» المتهور بتأميم كل ممتلكات «غير المصريين»، من شقق وعمارات وبيوت ومصانع ومزارع ومحالّ ومشاريع ناجحة ورائعة، وسلمها لضباط في الجيش والشرطة، فتولوا إما إدارتها وإما استخدامها كسكن، فعاثوا فيها خراباً، فانهار كل جميل ونافع مع الوقت، وجفت الإبداعات مع وفاة آخر عمالقة فترة ما قبل انقلاب 1952. كما كان لعجز القيادة منذ يومها عن وضع حدٍّ للزيادة السكانية السنوية الهائلة دور خطير آخر في إيصال مصر إلى وضعها الحالي الصعب!